ثقافة الهوية والمواطنة
نقلت الأخبار في صيف
العام 2006، أن طالبا فرنسيا أسمه جيروم شاراس ابن شقيق وزير اشتراكي سابق قد كسب
معركة قضائية ضد الدولة الفرنسية بعدما رسب في امتحان الفلسفة لان مدرسّه كان نادر
الحضور الى الصف.وفي أول حكم من نوعه في البلاد التي تمارس حماية كبيرة لموظفيها
ولجذورها الثقافية فاز الطالب بالقضية، بعد أن أدى إخفاقه في التعرف على الفيلسوف
الالماني (أرتور شوبنهاور) الى حرمانه من دخول كلية رفيعة المستوى.
وهكذا نلمس دور درس
الفلسفة في المنظومة التعليمية للدول المتحضرة، والذي يبدأ به مبكراً من
العمر،نظراً لما له من دور في رسوخ الأفكار والتوجهات. وعلى خلاف ما عندنا في
العراق حينما خلت منظومة ساطع الحصري (1880-1968) التعليمية، من أي نفحات عقلية
وانفتاح فلسفي. ولا نخمن أو نستبعد أن كان الحصري قد تعرض في حينها الى ضغوط من
بعض المتشنجين الدينيين وتحديدا السلفيين .كان للحصري باع مع موقف المتشنجين في
السلطنة، والأهم هو باعه في وضع
منظومة كرواتيا التعليمية،أو ربما هكذا كانت مراميه ورهطه، ممن جلبهم فيصل الأول
وزكتهم الخاتون كرترد بيل(1869-1926). ومن الجدير بالذكر أن الحصري بدأ حياته
السياسية قوميا تركيا (طورانيا) حد النخاع وعضوا فاعلا في حزب الاتحاد والترقي، ثم
تحول بعدها بقدرة قادر،الى (مفكرعروبي) لا يدانى، ومن أساطين تكريس الوضع الطائفي
والعرقي في السلطة العراقية، وتسنى له بعدها وضع منظومة التعليم والتعريب
العراقية، حتى تعلمنا جميعا من كتابه (القراءة الخلدونية) الذي وردت تيمناً بأسم
ولده خلدون .
لم يتبنى الحصري في
منهجه تعليم الفلسفة وعلم الكلام المسترسل من التراث، بما تناغم بشكل مريب مع
توجهات سلفية تمنع تدريس وبث الفلسفة في ثنايا الحياة الفكرية. ويمكن أن يكون
القصد من وراء إشاعة التعليم "مثلما كان مألوفا في المدارس العثمانية"
هو تخريج موظفين وكتبة وماسكين
سجلات، لتمشية أمور الإدارات والسكوت على علاتها ومهازلها. حتى أن مشروع جامعة أهل
البيت الذي أقره الملك فيصل الأول عام 1924 وجد من يخلق له العراقيل ويجهضه تباعاً
.
والخشية من درس
الفلسفة لها ما يبررها، فهي تمكث آلية للبحث والتفكير وسعي إلى فهم غوامض الوجود
والواقع، ومحاولة لكشف ماهية الحقيقة ، وإدراك قيم الأمور وأهميتها في الحياة.
وكون أن الفلسفة تنظر في العلاقات
القائمة بين الإنسان والطبيعة، وبين الفرد والمجتمع، وتنبع من التعجّب وحب
الاطلاع(الفضول) والرغبة في المعرفة والفهم. بل هي عملية تشمل التحليل والنقد
والتفسير والتأمل وتنعكس على عدة جوانب حياتيه منها الأخلاق والجمال، الذي تسعى كل
المجتمعات لتكريسها، بعدما سعت لها الأديان منذ نشوءها الأول.
ولفت نظرنا خبر الطالب
الفرنسي جيروم، كون فرنسا كانت ومازالت موئل للفلسفة الأوربية، فمنذ
"عقلانية" ديكارت، حتى" تفكيكية" دريدا، مروراً بسارتر
الوجودي، ورهط طويل من الفلاسفة، حيث تبوأت الثقافة الفرنسية من خلاله الحضور
الأوفر في الثقافات كلها، وتقمصها حتى أعدائها كالإنكليز والألمان والأسبان. ويمكن
أن يكون جاك دريدا Jacques Deridda ([1])، آخر هذا
الرهط. وأهميته تكمن في أن مذهب (التفكيكية Deconstruction ) الذي دعى له مازال سارياً
في عالم الثقافة والنقد الأدبي ، ووطأ حتى العمارة. ولدينا المعمارية العراقية زها
كأحد المشايعين لهذا التيار.
لقد وصف الدكتور سيار
الجميل دريدا : (كان كلامه أشبه بالطلاسم التي لا يفهمها إلا المختصون بعلم اللغة
وعلم الصوت )([2]).
والحقيقة أن دريدا لم يشذ عن رهط كبير من المتفلسفين الفرنسيين الذين لم يفهم من
كلامهم شئ، وكأنهم يتفوهون كلمات
ليس لها رابط،والأمر لا يهمهم غرورا،والأنكى أنهم يكرسون الإبهام من تحاشيهم ضرب
الأمثلة التوضيحية "التبسيطية"،
على الطريقة الإنكليزية.
وفي سياق الأمر
فأن(ميشيل عفلق) كان متأثرا بهذا الرعيل بسبب "خلفيته الصربونية"، فلم
يفهم في أحاديثه وندواته شئ. وكان البعثيون يسكتون على ذلك رياءا ودجلا، كي يبينوا
أن مفكرهم فاهم ،وأنهم فهموا ما تفوه به!، والحقيقة أن أي منهم لم يفهم شئ، فضاع
نصاب حركة الفكر وتقهقر العقل ،وانتهى الى مهازل، نشكو اليوم من وقعها. وجدير
بالتذكير هنا أن ميشيل عفلق مؤسس البعث يهودي أيضا أصله من رومانيا، ورد أبوه بعد
أحداث 1895 الى اليونان ثم الشام، وأستقر بها ،فولد ميشيل من أم شامية نصرانية وأب
يهودي روماني([3]).
وبصدد فلسفة دريدا
فانه مكث (شكوكي) بالمسلمات، وطفق يفسخ(يفكك) كل ما ورد من كنف التراث الإنساني
ويعيد تركيبه من جديد. وقد سار دريدا على سنة قديمة في (الشكوكية)، تعود للفرنسي
رينيه ديكارت (1596-1650) الذي عمت فلسفته أوربا يوماً، ويعزي الكثيرون أن أنوارها
ونهضتها جاءت من جراء أفكاره الجريئة والواقعية، وتسنى له أن يؤثر في كل التوجهات
النهضوية تباعاً، حتى بعد وفاته المفاجأ الذي حدث في السويد النائية، بعدما
استعارته الملكة كرستين نفسها ليعلمها الفلسفة، ولم يكن الجو البارد يلائم صحته.
وكانت الملكة قد حددت له الساعة الخامسة صباحاً وقتاً للتحدث معه في الفلسفة وكانت
تلك الساعة المبكرة شاقة جداً على الفيلسوف ، فأصيب بالتهاب رئوي وتوفي صباح 11
شباط البارد من عام 1650.
وفي هذا السياق نذكر
بأن ديكارت الذي تبنى المنهج (الشكوكي) في الفلسفة بموجب مقولته الشهيرة (أنا أفكر
فأنا موجود)، وتسنى للشك أن يولجه إلى حقيقة أن العقل إذا أدرك أنه يفكر فهو دليل
إثبات على وجود من يفكر.. ودليل مضاف على وجود الروح الحية. وتسنى له أن يشع بفكره
وأن تتمخض (شكوكيته) تباعاً عن منظومة (الأنوار Elightenment) في القرن الثامن عشر التي
عمت ألمانيا أكثر من فرنسا نفسها، بسبب الأحداث السياسية والتقلبات (الثورية).
ومفهوم التنوير هذا كان قد وضعه ديكارت نفسه، بمفهوم لا ديني ،ولم يكن يريد أن
يكون نقيضا للدين البته، كما ذهب الى ذلك
فولتير وديدرو في فرنسا من بعده
.
وكان قد أشار الوزير الجزائري المثقف
المرحوم (مولود قاسم نايت بلقاسم)([4])
مراراً بأنه وجد في مكتبة ديكارت التي تقبع اليوم في باريس على كتاب غير ذي شأن
للأوربيين، مؤلفه الإمام أبو حامد
الغزالي (1058-1111م)، وهو ملئ بالهوامش، يكرر فيها عبارة (وهذا مانتفق معه
ونتبناه)، أي أن مبدأ الشك واليقين الذي تقمصه ديكارت، قد جاءه من مدد الإمام
الغزالي، الذي بدوره أتى بسنة فلسفية عراقية قديمة جوهرها الشك والبحث عن اليقين
دون طائل، بما حرك العقول وشوق النفوس وصنع جدوى للحياة في بيئة يعمها الطوفان
والكوارث كل عام ، وأرضها مسرح للحروب والغزاة والطغاة ،ولا حدس في ما تؤول إليه
الأمور.
وطأ الغزالي مبدأ
(الشكوكية) بعدما حل بالعراق، ووجّه جهده إلى محاولة التماس الحقيقة التي اختلفت
حولها الفرق الأربعة التي سيطرت على الحياة الفكرية في عصره وهم :
· "الفلاسفة" الذين يدّعون أنهم أهل النظر
والمنطق والبرهان،
·
"المتكلمون" الذين يرون
أنهم أهل الرأي والنظر،
·
"الباطنية" الذين يزعمون
أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالأخذ عن الإمام المعصوم،
·
"الصوفية" الذين يقولون
بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
وسعى الغزالي جاهداً
ليتقصى الحقيقة بين تلك التيارات الأربعة؛ فدرسها بعمق شديد، حتى ألم بها وتعرف
عليها عن قرب، واستطاع أن يستوعب كل آرائها، وراح يرد عليها الواحدة تلو الأخرى.
وقد سجل ذلك بشكل مفصل في كتابه (المنقذ من الضلال). بيد أنه خرج من تلك التجربة
بجرعة كبيرة من الشك جعلته يشك في كل شيء حتى مهنة التدريس التي أعطاها حياته
كلها، وحقق من خلالها ما بلغه من المجد والشهرة والجاه، وهكذا أصابته
"السوسة" العراقية فأنتج في ترحاله وقراره أكبر ما تفتخر به البشرية من
فكر (شكوكي) .ونجد مذهبه شارحاً إياه: ( إن العلم اليقيني هو الذي يُكشف فيه
المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم). وفي البحث عن الحقيقة يقول ( فأقبلت
بجدٍّ بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟
فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا ).
وهو يفسر ذلك مصرحاً: (من لم يشك لم
ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال) ([5]).
ثم اقترن أسم الغزالي تباعا بمقولة (الشك علمني اليقين). وهنا نلفت النظر الى عدم
فهم (الشكوكية) المطروقة فلسفيا، كنزعة للريبة كما في مفهومها المرضي النفسي
السلبي المتعارف عليه اجتماعيا والعياذ بالله ، فالشك العلمي هو شك إيجابي .
وتجسد مبدأ (الشك واليقين) بأقدم نموذج
عراقي مدون جاء في ملحمة كلكامش حينما عكست شكا في ثوابت الكون ومطلقه وهو
(الموت)، الذي لا ريب فيه، ونجد في ثنايا الملحمة إشارات للتصوف والزهد وطلاق
الدنيا، الذي لا نستغرب ظهوره في العراق الإسلامي بعد قرون من تلك الريادة. وقد عكست ملحمة كلكامش بصدق هواجس عراقية
وردت من بيئتها ،واستمر"ثابتا" ثقافياً الى اليوم، وتبناها في الأزمنة
(العتيقة antiquity
)حتى فيثاغورس (Pytagoras) (الحراني) استنادا الى إشارة خفية ورامزة ولبيبة
وردت في رسائل ( إخوان الصفا وخلان الوفا) حينما وسموه بـ (شيخنا فيثاغورس الحراني)،
أي كونه عراقياً أو تأثر بالفكر العراقي من مصدره في حران التي هي إطلالة وبوابة
الفكر العراقي (الشكوكي) على جهات الغرب، ونسب جزافاً بسبب أسمه وجغرافية (حران)
بعد تبدل الدول، الى النتاج الفكري الأغريقي، ودليلنا بأن نظرية المثلثات التي
نسبت إليه، قد وجدت في بابل برقم طيني تعود الى ألف عام قبله، وانه قدم سكن بابل
ردحا، ثم اجتذبه داريوس الى
بلاطه، في فارس ، فقضى هناك الشطر الاكبر من حياته المهنية([6]).
ويمكن أن تشكل هذه
المعلومة تشجيعا للبحث والتدقيق في فك رموز المليون رقم طيني ونيف المسروقة من
المواقع الآثارية العراقية ، والتي تقبع اليوم منسية وتائهة وتحمل الكثير من
الأسرار في متاحف اسطنبول وبرلين واللوفر والأهم ما تضمه (سراديب) المتحف
البريطاني، ويقدر عددها وحدها بنصف مليون رقم، و التي سوف يكون فتح رموزها وبالاً
على مسلمات العلم وشطحات النظريات التي لوت أعناق الحقائق خلال قرون. فيا ويلها من
فتح قمقم الأسرار الأركيولوجي، وياصدمة المتشنجين ودعاة المركزية الغربية ومعجزة
اليونان المنزلة، بعدما ستعلن الجذر العراقي للفلسفة اليونانية (الشكوكية). وهذا
الأمر قدم له (مارتن برنار) الأنكليزي في كتابه الموسوعي (أثينا السوداء) التي
أثار بعد صدوره عام 1989 زوابع ، وأعلن من خلاله بالبحث المقارن الجذور المصرية
والشامية والعراقية للحضارة اليونانية، وان آلهة اليونان كلها سامية، وأن ثمة
احتلال (هكسوسي) "سامي" لليونان حدث حوالي عام 1500 قبل المسيح .
ومن الجدير بالذكر أن
الإمام علي بن أبي طالب (ع) تبنى نفس المنهج الفلسفي العراقي وأطلق مقولته (سوء
الظن من حسن الفطن)،التي هي حالة شكية بمغزاها. ولقد أرتبط الإمام بفكر أهله وفضل الإقامة بها خمسة أعوام
من أعوامه الست التي خلف بها ([7])
، وقد تأثر وأثر في التوجه (الشكوكي) الذي أثمر تباعاً .
أن مبدأ الاحتمالية في
الرياضيات حالة واردة من سياقات
(الشك واليقين)، وأنها شكلت الأساس والجوهر لعلم (اللوغارتمات) الذي أوجده محمد بن
موسى الخوازمي (ت 847م) في البيئة الفكرية العراقية ، وقد تداعى هذا العلم الى
اختراع الكومبيوتر في الأزمنة الحديثة، والتي اعتمدت أساساً على (الشكوكية) ومبدأ
الحيرة بين رقمي الصفر والواحد (0-1) حتى تكون (البايت) من ثمان مراتب وتضاعف العد
فيه الى الكيلو والميكا والكيكا. وهذا ما دعى الكثيرون ومنهم الدكتور رشيد الخيون
يذهب الى أن إيقاع المدد الحضاري لو كان قد أستمر بمنهجه لدى (المعتزلة) لكان قد
توصل لقانون الجاذبية قبل تفاحة (نيوتن) بقرون طوال كونه ورد في سياقات مدوناتهم ،
وكذلك الحال في اختراع الكومبيوتر منذ ذلك الحين. كل ذلك حث خيال بعض العلماء الألمان حينما تتبعوا أن أصل علم
اللوغارتمات هو من نتاج الحضارة
العربية الإسلامية وأن محركه هي اللغة العربية ومنهجيتها البنيوية في التفكير
(بحسب النظرية القومية المعتمدة على اللغة كجوهر محرك للفكر وليس العكس). وهكذا
اقترحوا تلقين بعض الطلاب الألمان النابغين اللغة العربية، كي يتقمصوا روح
الخوارزمي في بيت حكمة بغداد ليخترعوا جيل جديد من اللوغارتمات، التي ستشكل أساس
لجيل جديد من أنظمة الكومبيوتر، غير ما نعهده اليوم، وأجزم هنا أنهم سيبوئون
بالفشل لتباين البيئات التي تخلق النزعات وتتسامى حينما تحين الفرص التاريخية.
وجوهر (الشكوكية) في
الفلسفة هو: التأكيد بأنه لا يمكن التوصل إلى معرفة حقائق الأشياء، ويتناول
(الشكوكي) بالدراسة مبادئ وطرائق المحاكمة العقلية؛ و يستكشف كيفيات التمييز بين
المحاكمة القويمة والمحاكمة السقيمة. ويُسمَّى المثال المستخدم في المحاكمة
البرهان أو الاستدلال. ويتمثل البرهان في جملة من الحجج تسمى مقدمات، وهذه تقترن
بحجة أخرى تسمى النتائج التي من المفروض أن تستند إلى المقدمات أو تنبثق عنها. إن
البرهان القوي يكون سندًا للنتائج، بعكس البرهان الضعيف.
ويوجد نوعان أساسيان
من المحاكمة العقلية، يسمى أحدهما الاستنتاج والآخر الاستقراء. يوصف البرهان
الاستنتاجي بأنه صحيح عندما يأتي الحكم صحيحًا بالضرورة من المقدمتين. ويوصف بأنه
باطل إذا كان حكمه النهائي لا يتولد بالضرورة عن المقدمتين. فالبرهان الذي صيغته
كما يلي مثلاً : البشر كلهم عُرضة للموت. العراقيون بشر. إذن العراقيون كلهم عُرضة
للموت، هذا البرهان الاستنتاجي صحيح. لكن البرهان الذي صيغته: البشر كلهم عُرضة
للموت. العراقيون كلهم عُرضة للموت. إذن العراقيون كلهم بشر، هذا البرهان باطل وإن
كان الحكم النهائي صحيحًا، لأن هذا المنوال من المحاكمة العقلية يجعلنا نفترض
جدلاً أن الكلاب باعتبار أنها أيضًا عُرضة للموت هي بشر أيضًا.
وتُستعمل المحاكمة العقلية
الاستنتاجية لاستكشاف النتائج المترتبة على بعض الافتراضات. أما المحاكمة العقلية
الاستقرائية فيستعان بها لإثبات الوقائع والقوانين الطبيعية، وليس هدفها أن تكون
صحيحة من الناحية الاستنتاجية. فالذي يحكم عقليًا أن السناجب تحب الجوز، على أساس
أن كل السناجب التي رصدناها تحب الجوز، يكون قد بنى حكمه بطريقة استقرائية. فالحكم
النهائي قد يكون هنا باطلاً حتى ولو كانت المقدمة صحيحة. ومع ذلك فالمقدمة توفر
سندًا قويًا لاستخلاص الحكم النهائي .
وهكذا أمست الفلسفة
ونوعها العراقي (الشكوكي) مصدر كل النتاجات القانونية والأخلاقية والجمالية
والعلمية وأنعكس على منظومة القيم الفكرية، ويمكن أن يكون سبباً في وفرة الشعراء
في البيئة العراقية وكذلك وجود لمحات ماكثة في عرف اجتماعي لأشخاص يطلق عليهم في
القرية العراقية (الفريضه) ، الذي يتعامل بنفس المبدأ (الشكوكي) ومنهجه
الإستنتاجي، ولدينا في قصة (علي آل صويلح الزيرجاوي) أو (أبو فدعة) في ديوان حمد
الحمود شيخ الخزاعل في الديوانية التي تناقلتها الألسن منذ نهايات القرن الثامن
عشر أسوة ومثال، بالرغم من أن الرجل عاش ومات أمياً ولم يطلع على فكر الغزالي أو
ديكارت.
ويبدوا أن تفسير
أرنولد توينبي بشأن نشوء وارتقاء الحضارات ينطبق على الحالة العراقية، فبقدر كون
تحدي الطبيعة يكون قوياً فأن الإنسان يذعن له، ويسلم أمره لبارئه، والحال عينه
ينطبق على التحديات الهينة للطبيعة التي تخلق لدى الإنسان حالة من الدعة
والاستسلام وتحد من الطموح. أما الحالة العراقية فينطبق عليها التصنيف الوسطي
،حينما يكون تحدي الطبيعة متوسط الوقع وقابلاً للسيطرة ، وحينها تظهر لدى الإنسان
طاقة خارقة مخزونة، ونزعة الى مقابلة التحدي بالفكر والحذق والحيلة، وهكذا تسنى له
بناء منظوماته الحياتية الحاذقة والحذرة، التي تكتنفها حالة الجدل الشكي. وهكذا
كان طوفان النهرين السنوي وغياب الغطاء النباتي والحرارة المفرطة سببا في إرساء
منظومات العيش (ومنها العمارة) والإيمان والمشاعر العراقية.
وبالرغم من رسوخ
الفلسفة في كثير من حيثيات الحياة الفطرية العراقية، لكن غياب المنظومة الفلسفية
الناضجة الموروثة والمكتسبة ولاسيما المسيرة للإرادة السياسية العليا، تجعلنا
متخبطين في حياتنا حتى أننا لم نستطع اليوم أن نصنع لنا دستورا مقنعاً ، وما
صنعناه اليوم لا يرتقي الى دستور( أور- نمو) الإنساني الذي سنّه قبل 4200 سنة، أو
حمورابي الذي سنّه قبل 3700 سنه.
المنظومة التربوية العراقية
نعود الى المنظومة
التعليمية العراقية التي أرساها ساطع الحصري ورهطه القادم من مدارس تركيا
السلطانية والبلقان المتمرد عليها، والتي نعتبرها متخلفة كثيراً عن نظيراتها في
الغرب أو حتى لدى نظرائنا في المغرب العربي، الذي سار على المنهج الفرنسي، والذي
قفز في تدريس الفلسفة للناشئة، وتمخض الأمر عن تكوين تيارات متفلسفة ورهط ورموز من
الفلاسفة ، يبشرون بمستقبل واعد بالرغم من الوضع السياسي المتأزم والمتشنج بسبب
التأرجح بين مصالح وارتباطات: ملكية متزمتة، وعسكرتارية مستحوذة، ودكتاتوريا
شمولية. لكن وبالرغم من ذلك سمعنا عن فلاسفة مثل مالك بن نبي ومحمد أركون
الجزائريان وعابد الجابري المغربي ، وحركات وحلقات للفكر تستثمر إطلاعها على
الفلسفة من خلال مصادرها الفرنسية الأصلية.
وربما يكون هذا سببا
مقنعا وراء تخلف الحركة الفكرية للمشارقة والعراق تحديدا بالمقارنة مع المغاربة
،ولاسيما الفكر المشرئب الى نفس المصدر الغربي مثل اليسارية والشيوعية ، كونهم
أطلعوا على النظرية الماركسية من خلال النصوص الفرنسية الأصلية وبعقلية راجحة منذ
ديكارت، بينما شيوعيونا في المشرق أخذوها من خلال الترجمات الروسية المشوهة، منذ
لينين ورهطه المشوه. وزاد طينها بلة مشروع (الكومنترن) أو (الأممية الثالثة) والذي
تبنى مبدأ (دكتاتورية البروليتاريا) الشمولي، والذي أساء في فهم الماركسية
وإفهامها فلسفياً. وهكذا مكثنا في العراق ولاسيما المتفلسفين من الماركسيين نشتري
من فكر مترجم ومشوه أصلاً، وينأى عن الأعراف الفلسفية التوفيقية المفعمة بالروحية
المتسامحة العراقية، التي نبذت الصراعات كما الصراعات الطبقية والقومية، ورمنا أن
نبني عليه منظومة قيم نأت بالنتيجة عن المنال ،وتداعت الى صراعات طائفية وجهوية، ندفع
ثمنها اليوم أرواح تزهق ودم يهرق.
ويمكن أن يكون التغاضي عن فهم الخصوصية (الشكوكية)
العراقية جزء من السبب. و كان الأجدر لمفكرينا أن يدرسوها بعمق ويحاولوا ربط
الخيوط المتقطعة بين التراث المحلي الثابت مع آليات ووسائل الحاضر العالمي
المتحرك، من أجل الوصول الى النظرية الفلسفية المحلية ، التي هي كفيلة بموائمتها
مع الذات العراقية، ويمكن أن تنحو نحو العالمية مثلما فعل ديكارت، حينما تقمص روح
الغزالي بنفس غربي وبثه بمقياس عالمي. ونتذكر في هذا السياق المبدأ الذي شاع في
الدنيا ويتعلق بعلاج الجرحى والمعطوبين إبان الحروب، وبعيداً عن ساحات الوغى والتي
تبناها السويسري (أنري دو نان Henri Dunant) منذ العام 1863, بعدما
أطلع عليها بصيغتها المبسطة لدى بعض القبائل البدوية في تونس وتفاهمها على هذا
المبدأ. وحينها قفزت له فكرة تكريسها عالميا. وهكذا جاءت فكرة (الصليب والهلال
الأحمر) ، كوجه للممارسة الأخلاقية المتداعية من تعاليم قديمة تبنتها الثقافات
خارج نطاق المركزية الغربية.
كنت قد درست العمارة
وتخطيط المدن في معهد العمارة في بوخارست، وكانت مفاجأتي كبيرة حينما وجدت ظالتي
في أحد مواد الدراسة الذي يفسر الكثير مما كنت أتساءل عنه. كنت أستغرب من جذوة
اللذة بعد أن إنجاز عملاً ما، كالرسم أو التصميم أو حتى كتابة رسالة لأهلي. وتبين
لي أن ثمة علم يسبر غور تلك الظاهرة الوجدانية يدعى (الجمال - الأستطيقا) الذي
يبحث في اللذة والقيمة والتعجب والجودة في الحبكة الإبداعية، وكذا في المبادئ التي
يقوم عليها الفن، كما أنه يدرس أفكارنا ومشاعرنا وأذواقنا حينما نرى ونسمع ونطالع
شيئًا جميلاً مثل الرسم أوالنحت أوالموسيقى أوالقصيدة الشعرية أوالمسرحية
أوالفيلم، أوحتى غروب الشمس أو زهرة نظيرة أوغيرها من الظواهر الطبيعية. فضلاً عن
ذلك، فإنه يستقصي الخبرة التي
اكتسبها من يمارس أنشطة مختلفة.
ويتطابق هذا العلم
أحيانًا مع فلسفة الفن التي تبحث دائمًا في طبيعة الفن ومجريات الإبداع الفني
وطبيعة التجربة الجمالية ومبادئ النقد. لكن ميادين تطبيق علم الجمال أوسع، حيث
تشتمل على الأعمال الفنية التي أبدعها الإنسان، وكذا مظاهر الجمال الملحوظة في
الطبيعة. وندرك من خلال هذا العلم علاقة الجمال بالأخلاق والفلسفة السياسية حينما
نتساءل: أي دور ينبغي أن يؤديه الفن والجمال في المجتمع، وفي حياة الفرد؟ .ومن بين
تلك الأسئلة أيضًا: كيف يمكن تحسين ذوق الإنسان في مجالات الفن، وتهذيب طبعه
وترويض روعه ،وجعله مسالما دمثا؟. والأهم هو كيف ينبغي أن نعلّم الفنون في
المدارس؟ وهل للحكومات حق في وضع القيود للتعبير الفني؟.
وعلمت بعد حين بأن ثمة
فرع في الفلسفة أسمه (علم المنطق) الذي يتناول بالدراسة مبادئ وطرائق المحاكمة
العقلية؛ فهو يستكشف كيفيات التمييز بين المحاكمة القويمة والمحاكمة السقيمة.
ويُسمَّى المثال المستخدم في المحاكمة البرهان أوالاستدلال. ويتمثل البرهان في
جملة من الحجج تسمى مقدمات، وهذه تقترن بحجة أخرى تسمى النتائج التي من المفروض أن
تستند إلى المقدمات أوتنبثق عنها. إن البرهان القوي يكون سندًا للنتائج، بعكس
البرهان الضعيف.
وحينها قفزت لخاطري
جواب عن سؤال: لماذا لم يضع (ساطع الحصري) ولا حتى سلطة البعث في منظورها أن تدّرس
المنطق للناشئة العراقية؟. والجواب: كونه يفتح في عقولهم مرصداً "لمنطق"
الأمور، والشروع في عملية محاسبة لكل ماعداها، ومن ضمنها ممارسات تلك السلطات
النائية تماماً عن أي منطق وعقل. حتى أن عفلق نفسه القادم من (الصربون) والثقافة
الفرنسية "المتفلسفة" لم يرى ضرورة لتدريس تلك المفاهيم للعراقيين، كونها
تكشف عورته ورهطه قبل غيره.
وحينما عرف السبب بطل العجب، فلم يدرس
الجمال للعراقيين كي يوغلوا بالتوحش، ويصلوا أن يقتل ويقطع رأس أحدهم الآخر كما هو
دائر اليوم، أو يفجروا جماليات معمارية مترعة بالروحانية والقدسية، مثل قبة الإمام
العسكري (ع) في سامراء، أوأثر عظيم مثل منارة الملوية، أويفجروا كنائس المتقشفين
المسالمين ، أويقتلوا أهلنا الصابئة حماة الوداعة والتجمل الماكث في التراث
العراقي من تعاليم ماني البابلي .
قرأت يوماً بأن
إنكليزي نصح سلطة الإحتلال إبان الحرب العالمية الأولى بأن تراعي فضول العراقي ،وبكونه
محب للتعلم وسماع الأخبار، يتناقلها ويتداولها في محيطه، ويتجادل بها. لذا نصح
الإنكليز بأن يروجوا لجريدة يومية
تنقل للناس الأخبار وتلهيهم وتروضهم "أنكليزيا"،والأهم أنها تسعى
للتوائم مع سجاياهم الفضولية، كي يتركوا الإنكليز يخططون لدولة المحاصصات التي
سنتها (الخاتون) منذ ذلك الحين. ومن مقتضيات الأمر فتح مدارس لتعليمهم لفك رمز
الحروف .
ولم يخطر على بال هذا
الإنكليزي أو ساطع الحصري، أن يعوا طبيعة العقلية العراقية المتفلسفة الباحثة عن
بواطن الأمور خلف قشورها، والمتشككه حتى بالمسلمات، وبالنتيجة فتلك الذات باحثة
دؤوبة عن الفضيلة والمكارم التي جسدها في كم الديانات والفلسفات والمذاهب الفكرية
التي خرجت من رحمها، وكلها وغيرها تلتقي عند النقطة (الشكية) والأخلاقية في
الفلسفة. وهذا يعني أن تدريس الفلسفة هي الأقرب والأرغب لسجايا العراقي .
إن للفلسفة وتدريسها
مخالفون، هم السلفيون، الذين تبنوا شعار (من تمنطق فقد تزندق) ، وتذرعوا بأن
الإسلام دين إيمان، وأن العقل يقوم بالتشويش على القلب، وأن اللجوء للتفكير
المنطقي أمر مكروه وكانت خشيتهم متأتية من مخاطر التدقيق والغوص في باطن الأفكار
وخفي الأمور ومتذرعين بالتيهية الجالبة للضلالة والمؤدية للنار. ومكثوا متمسكين
بسلامة النصوص الموروثة ، ومبجلين للأسلاف ومنزهين لسيرهم من أي خطأ أو زلة، وأسبغوا عليهم عصمة غير معلنة ، وبالنتيجة فأنهم ودون
وعي، حرموا العقل من مهامه ونشاطه ، وكبحوا تطور بنيته العضوية ثم ملكاته.
وإذا دققنا
و"شككنا" في هذه النزعة"الشكلية" نجدها ليست روحانية البتة،
بقدر كونها موقف سياسي، فالعقل يشترط في حيثياته الحرية المطلقة في البحث والسؤال
والاستفسار وكسر حاجز الخوف والقفز فوق المسلمات وخطوط السلطة الحمراء . كل ذلك
يقرب من سبر غور محرمات، أملتها حِقِبٌ طويلة من الجمود والسكون. ويقود العقل
دائما الى أن يتفكر الإنسان في خلق
السماوات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان والثقافات وظروف كل زمن وجيل. لذا
فالخشية قائمة من قبول الآخر ونبذ العدوانية وما يتداعى من مطالبة بالقسطاس. وهكذا
لجأ أباطرة الفتوى وتجار الفقه الديني إلى الاستعانة بكتب كهفيه لمحاصرة الفكر
ومخاصمة العقل، وتكبيل الحرية بقيود ، لإغراق الناس في عالم الصغائر والتفاهات
وجاعلهم خانعين للاستبداد ومطواعين للطغاة.
وإذ نلمس أن أول نافذة
يفتحها العقل لدَى تحرره هي التسامح واعتبار الاختلافات بين الناس في الرؤى أمورا
طبيعية ورحمة وليس نقمة على المبدأ الفرقاني (وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا)، بل
يعتبر العقل أن من أولى واجباته في احترام ذلك المخلوق ،وأن محبة الله تتداعى الى
محبة مخلوقاته، بما يستدعي الدفاع عن حرية فكره، كي يشذ عن منزلة الحيوان أمام
الخالق .
ومن أوائل الدعاة لقمع
سلطة العقل واضطهاد أهل الكلام ومطاردة المعتزلة في التراث الإسلامي، كان أحمد بن
حنبل (780 ـ 855 م)، وعاضده المتوكل العباسي ، بعدما أعتمد الأحاديث، نقلها وسندها
فيصلا في الأحكام، وألغى سلطة
الاجتهاد والإستباط ، بالرغم من أن ثمة الكثير من الأحاديث أتسم بالهزال وتناقض مع
جوهر الدين نفسه، وأعترف الجميع بأن فيها مدسوس. والأمر برمته طبيعي، حتى لو صدقت
نوايا جامعيها، بعدما جمع و دوّن بعد قرنين من الرسالة المحمدية. وحدث الجمع في
شوط من الأرض يمتد بين الصين والأندلس ، وبغياب التواصل و"الإنترنت" كما
في أيامنا.
وتبع ابن حنبل الشيخ
تقي الدين أحمد بن تيمية (1262-1327م) وتلميذه ابن قيم الجوزية ، ثم تبعهم في
القرن الثامن عشر الشيخ محمد بن عبد الوهاب من ضمن دعوة للإصلاح الديني في نجد
الجزيرة العربية، واعتبرت تباعاً مذهباً لدى البعض بما دعي (الوهابية) .
ولا يخفى في هذه
الشجون بأن ثمة جاسوس إنكليزي يدعى (مستر همفر)، ترك كتابا مثيرا للجدل بشأن
العلاقات بين محمد بن عبد الوهاب والدعم الإنكليزي السري لحركته. فقد أوفدته وزارة
المستعمرات البريطانية الى الجزيرة العربية عام 1710 فزار العراق وإيران والحجاز
وتركيا، وأتصل بالشيخ كمسلم ،ووهبه جارية إنكليزية لعوب، سلبت تلابيبه بفنها، حتى
تبع إغوائها، وتسنى تمرير الكثير من الإملاءات على الشيخ من خلال ابتزازه أوإغراءه،
لذا نجد الكثير من الفتاوى تنأى عن المنطق اللبيب، ومنها مثلا تكفير كل المسلمين
ووجوب قتالهم كما يجاهد المشركين. وأوجب إعادة ترديد الشهادة من أصحابه والتبرء من
والديهم، كونهم ماتوا على ضلاله..الخ، وأعتبر أن ذبح المسلم أولى من بقاءه على
مذاهب غير مذهبه ([8]).
وأستمر الحال لدى عتاة
هذا المذهب حتى آخرهم عبد العزيز بن باز أعتبر الشيعة والمتصوفة كفار وأستوجب
قتلهم. ومن الطريف أنه أفتى قبل موته منذ أربعة أعوام بأن الأرض مسطحة وحرم على من
يفتي بكرويتها!. وهنا نلفت النظر الى أن
البابليين وربما السومريين قبلهم، قد أقروا بكروية الأرض قبله بأربعة آلاف
عام وقسموا الوقت مثلما الدائرة على النظام الستيني الذي مازال العالم لم يستغني
عنه أو يستبدله، لاشتراكهم بالتدوير، وثمة نصوص قرآنية تؤكد تكور الأرض ومعطيات
حديثة صورت ذلك، لكن أبن باز ألغى العقل وأملاه على أتباعه. ولنتصور في تلك الشجون
أي مستوى يمكن أن يصله وعي الإنسان بسبب الانغلاق وتخلف الخطاب الديني ؟.
وفي تلك الشجون ، لا
يفوت اللبيب أن (يشك) في ظاهرة اضمحلال كل الدعوات الإصلاحية في الإسلام المعاصر، والتي
ظهرت بوادرها منذ حركة محمد بن عبد الوهاب، وتصاعدت في نهايات القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين من قبيل دعوات جمال
الدين الأفغاني ومحمد عبدة وقاسم أمين
وعبد الرحمن الكواكبي في
الشام ومصر والعراق، والشيخ شامل في القوقاس والسنوسي في ليبيا وعبد الحميد بن
باديس في الجزائر والمغرب الإسلامي ومحمد علي جناح ومحمد إقبال وأبو الحسن
المودودي ودعاة الجامعة الإسلامية في الهند . كل هؤلاء سعوا الى إصلاح الدين من
خلال الوسطية وسطوة العقل ونقد السلطات . لكن حوربت وهمشت تلك التوجهات، وأسدل
عليها ستار النسيان بعد حين، ولم تثمر عن حركة إصلاح سياسية واجتماعية ملموسة، على
عكس حركة أبن عبد الوهاب التي أسس لها دولة ونصاب حضاري ودعم عالمي ودعاية .
وفي تتبع أحداث
التاريخ نجد أن الإنكليز طفقوا يبحثون عن آثار عبد العزيز بن عبدالرحمن بن سعود
المولود والمنسي في الكويت ، كونه وريث الدولة السعودية الأولى التي سقطت على يد
إبراهيم بن محمد علي باشا والي مصر في أواسط القرن التاسع عشر. لقد بُعث في طموحه
الروح ، وزود بالخبراء والمستشارين مثل فيليبي ، وحتى المس كرترد بيل، التي كنّوها
العراقيون بعد ذلك بـ(الخاتون) ، وكانت قريبة منه حتى في مخدعه، والقصة ذو شجون، وترد
فاضحة في مذكراتها ورسائلها .
وبالنتيجة أسس
الغربيون دولة السعودية الجديدة ، وبورك
لهم توحيد الجزيرة العربية ، وكان مرسوم لها أن تكون دولة سلفية من الجوهر، وسكت المتشدقون بالديمقراطية
في الغرب على أمر إلغائها وقمع كل التوجهات الوسطية للإصلاح ، وغضوا الطرف عن
شطبها للمذاهب الأخرى في الجزيرة العربية كالشيعة والمالكية والشافعية والزيدية
والإسماعيلية ، ناهيكم عن التصوف، ولا نريد أن نماحك الأفكار والتيارات والتجمعات السياسية التي قمعت دون هوادة. الأهم في تلك
الحيثيات الإسلامية هو السيطرة على الحجاز والمواقع المقدسة، ثم مساندة تصدير التوجه
السلفي شرقا الى آسيا المجاورة . ومن الغريب أن تلك الأصقاع مكثت مترعة بالفلسفة
الروحانية البوذية والهندوسية والتاوية والكونفوشيوسية في ثابتها الثقافي، وعرف
عنها توجهها المسالم المتسامح. وتمخض الأمر تباعاً لنموذج إسلامي أسيوي ، سلفي
الطابع عنيف الممارسة، ومتوحش الطبع، تجسد في طالبان والحركات السلفية في باكستان
وكشمير وآسيا الوسطى .
(( خارطة العالم والأرض المكورة (( ديكارت الفرنسي))
عند البابليين منذ 4000عام ))
ثمة الكثير من
الإشارات التاريخية التي تصف العراقيين أهل جدل وعقل ، ويقر الإمام الشافعي ذلك حينما وسمهم بـ (أصحاب الرأي) ونعتهم
بـ(أصحاب أبى حنيفة النعمان بن ثابت) الذي دعي مذهبه (مذهب أهل العراق)، وأقر بأن
تسميتهم جاءت بسبب عنايتهم بتحصيل
وجه القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها وربما يقدمون القياس
الجلي على آحاد الأخبار . ونجد أن الإمام
أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي العراقي (699-767م) ، يؤكد نزعته العقلية
وقبوله بالرأي المخالف حينما يقر: (علمنا هذا رأى أحسن ما قدرنا عليه فمن قدر على
غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا . وهؤلاء ربما يزيدون على اجتهاده اجتهاداً
ويخالفونه في الحكم الاجتهادي والمسائل التي خالفوه فيها . وتحدث اختلافات كثيرة
بين الفرقاء على الفروع ولهم فيها تصانيف وعليها مناظرات وقد بلغت النهاية في
مناهج الظنون حتى كأنهم قد أشرفوا على القطع واليقين وليس يلزم من ذلك تكفير ولا
تضليل بل كل مجتهد مصيب) .
وثمة مفارقة تاريخية
جديرة بالعناية ، فعلى خلاف أبن عبد الوهاب الذي نشأ في بيئة بدوية عربية، فان أبن
حنبل كان فارسياً وتولد في مرو في أواسط آسيا وقدم الى بغداد يافعاً، وابن تيمية
وابن قيم الجوزية كرديان من عفرين من شمال سورية، وأن ثمة حركة سلفية نشأت في
المنطقة الكردية في العراق (ملا كريكوار ورهطه) ، بما يعني أن تلك النزعة مرتبطة
بالطبيعة البشرية أكثر من البيئات الاجتماعية والطبيعية.
وبالرغم من تلك القاعدة لكننا نلمس
اختلافاً في البيئة العراقية ، فقد لفض العراقيون دائما التوجهات السلفية، على عكس
التشيع مثلاً ، الذي وجد طريقه الى البنية الفكرية لأهله، وتوائم مع الروحية
العراقية الباكية الشاكية واللائمة للذات والمتأملة في الوجود والحاثة على التواضع
والزهد. لكن الأهم من ذلك أن التشيع تبنى الاجتهاد وأستند على سلطة العقل
(الشكوكي) كأحد مقومات الفقه المذهبي، وبنت عليه الحوزة مناهجها ودروسها ، وثمة
الكثير من الطروحات التي تذهب الى أن الفكر المعتزلي أخترق التشيع في الصميم ومكث
فيه.
(( هنا مكثت الأعراف الفكرية
العراقية ))
وهنا يجدر الإشارة الى
أن جل القبائل التي نزحت من الجزيرة العربية، مكثت على مذاهبها، لكنها تشيعت بعد
جيلين أو ثلاث، حينما توائمت عقليتهم مع البيئة العراقية، ويورد هذه المعلومة شيخ
سني يدعى فصيح الحيدري في كتاب قديم عنوانه (عنوان المجد في تاريخ البصرة وبغداد
ونجد) المدون حوالي عام 1870، مقدراً تلك الطفرة بحوالي قرنين ،هي الفترة التي
تشيع خلالها الكثير من القبائل العربية المهاجرة .
وهكذا لم تنتشر الدعوة
الوهابية في العراق ، بينما انتشرت في الخليج والجزيرة المجاورتين. ولم يستسيغها
حتى عتاة التسنن العراقي، مثل الشيخ أبو الثناء محمود الألوسي البغدادي
(1803-1854م) ، حينما تهكم عليهم في جلساته وخطبه. ومن المعروف عنه أن حلقاته
وجماعته شملت الشيعة وأهل التصوف
على حد سواء، ولم يؤمها السلفيون. وثمة مفارقة تدعوا للتمحيص هو عدم شيوع حركة
الأخوان المسلمين أو دعوات الإسلام السياسي في البيئة الاجتماعية العراقية ، أو
حتى الحركة القومية العروبية، إلا قسراً ومن خلال الانقلاب السياسي الذي كرسها
وختمها بالبعث وسقوطه الذي لم يأسف عليه إلا ثلة. على عكس التربة الخصبة التي
وجدتها الشيوعية الإلحادية منذ
العشرينات والوجودية عند بعض النخب في الستينات من القرن العشرين .
كل ذلك وغيره يدعونا
الى فتح الباب على دراسة العقلية العراقية من خلال معطياتها الذاتية، وعلى واقعها
ومحكها، وليس كما يتمناه كل منا. وهنا ننأى عن تطبيق أو"ترهيم" حلول
المجتمعات الأخرى عليها، حتى لو كانت صحيحة، لكنها لذاتها وخصوصيتها، وأن
الاستفادة منها كوسيلة وينحصر في باب المنهجية والعمق البحثي، وخلافه فأننا نحاكي
من ينقل البدوي الهابط من خيمته وسط حماد الأرض ويلبسه طقم "سموكن"
باريسي، ويسكنه قصرا هابسبوركيا. وهذا يعني
أن الإنسان نتاج بيئاته الثلاث الجوية والأرضية والاجتماعية، وأن قسره على
غيرها يتداعى الى تشويهات مرضّية والعياذ بالله. وأن النزعة للدونية ،وإستساغة
التبعية ، لمسناها من التجربة حصراً عن الشعوب التي قسرت على حلول خارجية بعيدة عن
فطرتها.
قرأت بحثاً متميزا
بصدد "الكشف عن مواهب الطلاب وصقلها إبداعيًًّا" والذي يبين أن نسبة
المبدعين الموهوبين من الأطفال من سن الولادة إلى السنة الخامسة من أعمارهم يبلغ
نحو 90%، وعندما يصل الأطفـال إلى سن السابعة تنخفض نسبة المبدعين منهم إلى أن تصل
إلى 10%، وما أن يصــلوا إلى السنة الثامنة حتى تصير النسبة 2% فقط، مما يشير إلى
أن أنظمة التعليم والأعـراف الاجتماعية تعمل عملها في إجهاض المواهب وطمس معالمـها
، وبالعكس فأنها قادرة على الحفاظ عليها بل وتطويرها وتنميتها. ويتذكر جلنا في
الستينات قصة العبقري عادل شعلان وخياله بالرياضيات ، والذي لم يجد له في منظومة
العراق التعليمية التي تركها "ساطع" لنا، محل ومن يأخذ بيده، فأنحسر
وتداعى الى كاتب وصولات في أحد المستوصفات الحكومية، وطواه النسيان .
وهنا ننبه الى ضرورة
ممارسة إصلاح جوهري على منظومة العراق التربوية ، التي ينقصها الكثير، وتحتاج الى
علماء أكفاء لبحثها والبت في حيثياتها، والأجدر الإطلاع على تجارب الدنيا
وموائمتها مع الخصوصية العراقية .حيث
نجد أن إيطاليا تحسن من أداء المنظومة التعليمية لديها كل ستة أشهر، والسويد
دائبة البحث يومياً عن الارتقاء بعقل الطفل والنشأ والشباب، من خلال الملاحظة
التحليلية، والبحث المعمق واعتماد التفسيرات التطبيقية، من خلال آليات تشويقية تعتمد اللعب والمتعة
واحترام ومسايرة النزق الطفولي لتوصيل جملة الأفكار المقصودة. والأهم في تلك
الشجون أن نرسم خطة رصينة لتدريس الفلسفة ولاسيما في موضوعات المنطق والأخلاق
للصفوف الأولى والجمال وتاريخ الفلسفة للصفوف المتأخرة ، بأساليب مبسطة ،وغير
قسرية أوإملائية (دكتيه أو دكتاتوريه). والعراق مقبل على محو مرحلة مقيتة كان
رموزها عفلق وطلفاح وصدام ثم الإحتلال ورموزه، ورهط ممن لم يعوا قيمة مكانهم ولا
مكانتهم ، فهبطو وأهبطوا الى الدرك الأدنى جذوة التطلع العراقي .
1 جاك
دريدا 1930 الجزائر-2004 باريس. يهودي فرنسي من أصل جزائري.ومكث يردد بأنه لا
يعرف أن كان جزائريا أم فرنسيا، بالرغم من حنينه للجزائر وحي (الابيار) الذي ولد
فيه،بعدما أجبر على مغادرته بعد
الاستقلال عام 1962،و صنف من جماعات المستوطنين (الأقدام السوداء (لابي نوار La pied noir) ،بالرغم من أنه كان ينتقد الاستعمار الفرنسي للجزائر.
2 جاء ذلك وصفا لمحاضرة حضرها المؤرخ العراقي الدكتور سيار
الجميل،الذي تبنى أفكاره لحقبة،وفكك بها هيكل.
[3] وديع النونو- كتاب إسلام عفلق-
دمشق
[4] شغل
نابت بلقاسم وزارة الثقافة ،وطبع القرآن في الجزائر، وتبنى مشروع التعريب بالجزائر
وتحمس له ،بالرغم من أنه بربري،وسعى لمشروع تنويري إسلامي لاقومي ولاسلفي، لكنه
أجهض مثله مثل الكثير من المشاريع النهضوية في الجزائر.
[5] الإمام أبو حامد الغزالي- المنقذ من الظلال.
[6] (ص661 سنة 1886 (Heuzey-
Revue politique et literature.يوردها بابلون أرنست في الآثار الشرقية ترجمة مارون عيسى الخوري طرابلس-لبنان 1989
[7] يورد إبن أبي الحديد المعتزليمقوله للإمام علي يذكر بها أن اصل
قريش من العراق وأنهم (نبط من كوثى السواد).
[8] ثمة قراءة للكتاب والكاتب في مقال
منشور في مجلة روز اليوسف العدد 4075 الصادرة بتاريخ 21-7 2006- صفحة 16-القاهرة