ثقافة
صحية
الفكر الديني الصيني وعلاج
الانسان..
ان من اكبر عيوب الثقافة العراقية في العصر الحديث،(كذلك العربية)، انها
اعتمدت فقط على المصدر الغربي، وتجاهلت تماما المصدر الشرقي، وبالذات الصيني
والهندي. نحن لسنا ضد الثقافة الغربية، ولكننا ضد ان تكون وحدها المصدر الثقافي
الخارجي لنا. ان الثقافة الغربية نفسها، منذ سنوات طويلة بدأت تكتشف اهمية الثقافة
الآسيوية، حيث انتشرت الآن في الغرب التيارات الفكرية والمعتقدية والطبية القادمة
من آسيا، مثل اليوغا والادوية الهندية والصينية والعلاج بالأبر الصيني، ومختلف
العلاجات التي تعتمد الطاقة وقوى الطبيعة، بالاضافة الى أنواع الرياضة الصينية
واليابانية.
لهذا فأن مجلتنا تأخذ على عاتقها أن تخصص باباً في كل عادة بتقديم بعضا من
الثقافة الآسيوية، لكي يغتني فكرنا العراقي ويتحرر من التبعية الكاملة للفكر
الغربي . ( ميزوبوتاميا )
لم تتوقف
الاجتهادات المستمرة التي قامت بها الإنسانية من أجل فهم أفضل للكون المحيط بنا،
ولن تتوقف. إن محاولة الانسجام مع الكون، ومع هذا الكوكب الثمين جداً المدعو
بالأرض، لا تقتصر على شعب معين أو على معتقدات بعينها، بل نرى آثارها في كافة
الأزمنة وكافة الأوطان وكافة الأديان، ما انقرض منها وما بقي إلى يومنا هذا.
سأخصُّ بالذكر
هاهنا بعض المعتقدات الصينية التاوية المدعوة بالـتشي كونغ qi gung،
لجهة غناها بالمعتقدات القائمة على مبدأ الانسجام مع الكون وتوضيحها لها توضيحاً
عملياً، ولأنها أبدت استمرارية زمنية كبيرة تقارب حوالى 12000 سنة، ناهيكم عن
بساطتها المتناهية.
يأتي تعبير تشي
كونغ من مقطعين صينيين: الأول هو تشي، ويعني الطاقة، التنفس، الهواء،
الحيوية، والثاني هو كونغ، ويعني العمل، الجهد، التمرين. وبالتالي تدلُّ
كلمة تشي كونغ على تمارين التنفس أو أعمال الطاقة. والحق أنه قد ثبتت
لممارسي التشي الكونغ، لليوغا الهندي، وللعديد من الممارسات الروحية والبدنية،
الأهميةُ البالغة التي يلعبها، في حياة الإنسان الداخلية، التنفسُ والقدرة الماهرة
على ضبطه، وعلى التحكم بسيلان الطاقة وتوازنها داخل الجسم، وعلى إحداث انسجام بين
طاقة الإنسان والطاقة الطبيعية والكونية.
والآن، ماذا
يعني التشي كونغ بحدِّ ذاته؟ إن التشي كونغ هو منهاج قديم جداً من أجل تطوير
النفس، يعتمد – بعكس الكونفوشية (والحق أن الاختلاف بينهما ظاهري أكثر منه حقيقي)
– على الإمكانية والمسؤولية الفرديتين للحفاظ على الصحة وتطوير الحيوية وإطالة
الحياة، في الوقت نفسه الذي يقوم به الفرد بتطوير الوعي الروحي والبصيرة. يعتمد
التشي كونغ في هذا على:
1.
تمارين بدنية سكونية وحركية بالوضعيات المختلفة للاستلقاء والجلوس والوقوف والمشي.
2.
ضبط التنفس والقيام بحركات تنفسية متناغمة مع الحركات
البدنية.
3.
بعد
تهيئة البدن وإعطائه الاسترخاء المطلوب عن طريق التمارين والتنفس، يُعمَد إلى
اتخاذ وضعيات معينة، تأملية وروحية، مستقاة من مراقبة الطبيعة وحركات الحيوانات
والأجرام السماوية.
تستلهم غالبية تمارين التشي كونغ محاكاة الطبيعة (هنا حركة "الشجرة
الواقفة")
4. يدخل في بعض الممارسات استعمال الأصوات والروائح وترداد مقاطع
صوتية معينة، وخاصة في التشي كونغ البوذي.
5.
يركِّز
التشي كونغ التاوي على الخيمياء (الكيمياء القديمة) الداخلية التي سأذكرها لاحقاً. والغاية
منها أن يصل الإنسان إلى وحدة تامة مع الطبيعة في كل عمل يقوم به ويمارسه، وأن
يُحدِث تغييراً كاملاً في سيلان الطاقة داخل الجسم لتصير أكثر انسجاماً مع
الطبيعة، الأمر الذي يغير التفاعلات الكيميائية داخل الجسم لتصبح أكثر عطاء للطاقة
واستفادة منها، فتُغلِّب في الجملة العصبية نشاط الجملة نظيرة الودية parasympathetic
nervous system التي تتميز بالاسترخاء وعدم
التوتر، بعكس الجملة الودية sympathetic nervous system التي ترهق الجسم من
خلال منعكس الصراع أو الهرب fight or flight. فلنبدأ بلمحة تاريخية عن هذه المدرسة.
تضرب جذور
التشي كونغ في عصور ما قبل التاريخ عندما كانت بعض القبائل في الصين تقوم برقصات
احتفالية تدعى بالـ da-wu (الرقصة الكبرى) التي
لوحظ أنها أعطت فوائد علاجية للذين قاموا بها. تم هذا الاكتشاف حوالى 10000 ق م.
في تلك الأيام كان التشي كونغ وجميع أشكال التطبيب حكراً على الأطباء السحرة
المعروفين بالشَمَنيَّة Chamans الذين كان يتمثَّل
دورهم في التعامل مع قوى السماء والأرض من أجل فائدة الإنسانية. إن أوائل الكتابات
عن التشي كونغ تعود إلى قبل 4000 سنة، عندما طُوِّرت رقصة أخرى من أجل إبعاد المرض،
أُسُّها تنظيم التنفس وتوازن الطاقة، وكانت تمارَس كنوع من العلاج الوقائي في
المناطق الشمالية من الصين (حيث حوض النهر الأصفر) التي كانت تُبتلى بالفيضانات
وتشتد فيها الرطوبة، مما يؤهِّب للإصابة بالروماتيزم والدوالي وبطء الدوران
و"ركود الطاقة"، بحسب تعبير الصينيين.
في القرن
الثالث ق.م كان التشي
كونغ قد بلغ درجة متطورة وأصبح له الدور الأساسي في الحقول الثلاثة المعروفة:
الطب، التأمل والفنون القتالية. وفي الحقيقة، ما تزال كل مدارس التشي كونغ، على
تنوعها الكبير في الصين وكوريا واليابان وماليزيا وسنغافورة وتايلاند وغيرها،
تندرج تحت ثلاثة حقول أساسية: طبية، تأملية، قتالية، وتهدف كلها في النهاية إلى
الحصول على صحة أفضل، وعمر أطول، وتوازن فسيولوجي ونفسي، وذهن صافٍ متوقد، وانسجام
روحي.
كتب Fu Yi
حوالى 2000 ق.م: "إن
التشي كونغ فن يرضي الروح، يبطئ الشيخوخة ويطيل الحياة." وفي الأدب التاوي ما
يزال الإمبراطور الأصفر Huang-Ti هو المرجع الأساسي الذي
نُسِب به التشي كونغ – هو الذي عاش حتى عمر 111 سنة، وحكم مجموعة من القبائل في
شمال الصين حوالى 2700 ق م، ويقال إنه مارس التأمل وتمارين التنفس بشكل يومي
منتظم، وطور الخيمياء alchemy الداخلية لليوغا
الجنسي التاوي من خلال ممارسته لهذه الرياضة الجنسية دون قذف مع حريمه البالغ 1200
امرأة! إن مناقشات الإمبراطور الأصفر مع رئيس أطبائه مدوَّنة في الكتاب الطبي
الصيني المعروف بـكتاب الإمبراطور الأصفر الكلاسي في الطب الداخلي Huang-Ti nei Ching.
يمكننا أن نؤرِّخ لتاريخ التشي كونغ عبر الحقب التاريخية من تاريخ الصين كما يلي:
أولاً. التشي
كونغ خلال حقبة الين والتشو Chou (القرن 18 – القرن
الرابع ق م):
من أبرز
الشخصيات في هذه الفترة شخصية Peng Tzu الأسطورية الذي يقال
إنه عاش ما يقرب من 800 سنة نتيجة فوائد التشي كونغ. يعتبر Peng Tzu
بحق مؤسِّس الـ dao-yin، إحدى طرق التشي كونغ
المعروفة. وهي تستند على إجراء حركات بَسْط ودوران بطيئة للأطراف بالمشاركة مع
تنفس بطني عميق. كان Peng Tzu يستيقظ يومياً في
الساعة الثالثة صباحاً، يجلس في وضعية تأمل صامت حتى الفجر، ثم يقوم بتمارينه
المفضلة التي تتضمن أيضا تدليك العينين والمناطق الأخرى من الجسم وتحريك اللسان في
كل الاتجاهات داخل الفم لتحريض إفراز اللعاب المفيد المدعو بـ"العصارة
الحلوة" gan-lu.
في تلك الحقبة
كان يمارس التشي كونغ بشكل أساسي الأطباءُ السحرة أو الشَمَنيَّة الذين يصفون
العقاقير المختلفة لأفراد القبائل، والطبقات الحاكمة والملكية والأرستقراطية.
وبقيت الحال كما هي طوال التاريخ الصيني حتى القرن العشرين الذي صار فيه هذا العلم
والفن شعبياً يمارس في الحدائق والمنازل والمدارس بشكل واسع. في تلك الحقبة أيضاً
تم تأليف كتاب التحولات I-Ching الذي يعتمد على نظام
مكوَّن من ثمانية مثلثات، ينشأ عنها أربعة وستون مسدساً، وتُدرَس بواسطتها
احتمالات الحوادث
المستقبلية، وتُستعمَل من خلالها قوى السماء والأرض كحلول لمشاكل الإنسانية. يتم
هذا عن طريق قراءة الأنماط الغالبة والتحولات الدورية للطبيعة والكون من خلال
قراءة الخطوط المتكونة من السداسيات hexagrams كجواب على أسئلة
معينة . وبذلك صار مبدأ استعمال قوانين الطبيعة والكون من أجل خير الإنسانية جزءاً
أساسيا من التفكير الفلسفي التاوي ومن ممارسات التشي كونغ. وقد نتج عن هذا ما يلي:
1.
تتبع صحة الإنسان ومرضه، سعادته وحزنه، تغيرات دورية في السماء والأرض.
2.
عندما تصل أفكار ومشاعر وأعمال الإنسان درجة مستقرة من التوازن الداخلي والانسجام
الفسيولوجي، يصل الإنسان إلى أفضل الحالات الحياتية الممكنة.
3.
عندما يقع الشخص ضحية للمرض فإن أفضل طريقة للشفاء هي تسكين العقل، تهدئة المشاعر،
إحداث انسجام في الفعاليات البدنية، وخلق حالة توازن. تعيد هذه الطرق إلى الشخص
الصحة المفقودة، كما تعيد إليه الحيوية وتضعه في حالة توازن مع قوى السماء والأرض.
4.
الحركة
والسكون قطبان نسبيان في وجود كلِّي واحد، وليسا ظاهرتين مستقلتين، كما هي حال الـينغ
والـين، كونها أقطاب متكاملة في نفس الطاقة الكونية الأساسية.
سداسيات كتاب التحوُّلات الـ 64
الين والينغ قطبان متكاملان لطاقة مبدأ التاو
الأولية
ثانياً. حقبة
الممالك المتحاربة – حقبة الـ Chin والـ Han
(403 ق م – 220
م):
مع أفول شمس
سلالة التشو بدأت مرحلة اضطرابات اجتماعية وسياسية عُرِفَت بحقبة الممالك
المتحاربة. ولكن لغرابة الأمر، كانت هذه المرحلة مليئة بالإبداعات العقلية
والفلسفية. فقد ظهر كونفوشيوس ولاو تسه والعديد من الحكماء الآخرين خلال تلك
الفترة.
ألَّف لاو تسه
الكتاب الشهير Tao Teh Ching ("كتاب الطريق
والفضيلة") وعرف باسم "الحكيم القديم". من أقوال ( لاو تسه) في التاو تِهْ تشينغ: "القساوة
والصلابة هما طريق الموت، أما اللين والطراوة فهما طريق الحياة." أكد ( لاو تسه ) دائماً على وجود التحول المستمر في كل شيء،
على أهمية الليونة والانسياق مع تغيرات الحياة، وعلى أن القساوة والتصلُّب في
الفكر والمشاعر وحركات الجسم لا تتوافق مع مبادئ الحياة. فالشيء الوحيد الذي لا
يتغير هو التاو.
كذلك
كونفوشيوس أدرك أهمية الحركات الانسيابية الناعمة. ففي كتابه المعروف بـحوليات
الربيع والخريف يقول: "الماء المنساب لا يصاب بالركود، وحواف الباب
المتحرك لا يطالها صدأ، وهذا بفضل الحركة. نفس المبادئ تنطبق على الإنسان. إذا لم
يتحرك البدن، لا ينساب الجوهر، وعندما لا ينساب الجوهر، تركد الطاقة." يذكِّر
هذا – لعمري – بقول النفَّري: "العلم المستقر هو الجهل المستقر."
في عام 221 ق
م استطاعت مملكة التشِن الهجوم على الصين من الناحية الشمالية الشرقية وتوحيد
الممالك ضمن إمبراطورية واحدة لأول مرة في تاريخ الصين (أتى الاسم الغربي للصين من
اسم هذه الإمبراطورية: تشن). كان الإمبراطور المؤسس Chin Shi-huang
شديد الاهتمام بالخيمياء كطريقة لإطالة الحياة، وقد أبقى على عدد كبير من
الخيميائيين في قصره. ولكنه اتَّبع – لسوء الحظ – المدرسة الخارجية في الخيمياء
التي تشبه مثيلتها في عصر الانحطاط عند العرب وفي أواخر العصور الوسطى في أوروبا
في محاولتها الوصول للجوهر النفيس أو العقار الذهبي من معادن أقل قيمة ومن أعشاب
سامة. وهذا يشبه، إلى حدٍّ ما، المنهج الغربي الحالي باستعمال المواد الكيماوية
لمعالجة المرض. استمر هذا النهج إلى عصر سلالة الهَنْ. وفي الحقيقة، فقد توفي
العديد من أمراء التشِن والهَنْ بسبب ابتلاعهم مركبات معدنية سامة، سواء كان ذلك
من جراء فكرة مجنونة خطرت ببالهم أو دسيسة كادَ لهم بها غيرهم.
في نفس تلك
الفترة ظهرت قلة من الخيميائيين العباقرة الذين أبقوا على تعاليم الإمبراطور
الأصفر حية، ومنهم Lu Pu-wei الذي صنَّف كتابين
هامين هما: كتاب لو في ( الربيع والخريف ) الذي يتناول الانسجام بين السماء
والإنسانية، وخاصة تنظيم فعاليات الإنسان مع دورات الطبيعة، وكتاب ( طريقة تهذيب الحياة ) الذي يشمل معلومات قيِّمة عن التغذية
المتوازنة والتنفس العميق، بالإضافة إلى تمارين الـ dao- yin
واليوغا الجنسي .
في حقبة
الهَنْ المتأخرة ظهر الطبيب Hua To الذي يعتبر من أشهر
أعلام الطب الصيني التقليدي والخيمياء الداخلية؛ وهو مؤسس التمرين المعروف
بـ"لعبة الوحوش الخمسة" Wu- chin-shi التي ما تزال تستعمل
على نطاق واسع لمعالجة الأمراض، ومنها السرطان. كذلك ظهر العالم الشهير Wei Po-yang
الذي ألف كتاباً هاماً في الخيمياء التاوية عنوانه ( اتحاد المعادلة الثلاثية) ، شرح فيه الخيمياء الداخلية للتنفس العميق
ولتحول الطاقة ولليوغا الجنسي.
كشفت الحفريات
الأثرية الحديثة في مقاطعة هونان عن عديد من الوثائق والملفات التي يعود بعضها إلى
2000 ق م والتي نجد فيها مخططات متعددة لنظام الطاقة داخل الإنسان وتمارين مختلفة
للـ dao- yin والـ qi-gung
والعديد من المخططات التشريحية الأخرى. وتوجد دلائل واضحة على أن المدرسة الداخلية
في الخيمياء حلَّت محل المدرسة الخارجية منذ القرن الثاني الميلادي، بينما لم يقم
العرب، ومن بعدهم الأوروبيون، بهذه القفزة إلا بعد 800-1400 سنة على الأقل على ما يبدو. وكان لهذا
نتيجتان أساسيتان: أولهما أن إكسير الحياة الحقيقي هو إكسير الطاقة الداخلية
اللامادي، والطريقة الوحيدة للحصول عليه هي الممارسة الشخصية المنهجية الصادقة،
وليست عن طريق ابتلاع مركبات معدنية وسُمِّية خارجية؛ والنتيجة الثانية هي إتاحة
هذه الفرصة من الصحة وطول العمر لكل الناس، وليس فقط لطبقة معينة من الأثرياء
والحكام.
معالِج بالطاقة ( تشي) يوازِن
بطاقته الشخصية طاقة إحدى المرضى
ثالثاً.
الممالك الثلاثة والسلالات الشمالية والجنوبية (200 – 580 م)
مع انحلال
مملكة الهَنْ، ظهرت فترة أخرى من الاضطرابات السياسية، لكنها شجعت على التطور في
أمور أخرى. ظهر آنذاك كتاب هام عُرِف ( بـكلاسيكيات البلاط الأصفر) Huang Ting Ching الذي ركَّز من جديد على نظرية الإكسير
الداخلي، واعتبر الدماغ والضفيرة الشمسية والقسم السفلي من البطن مراكز تحويل
الطاقة الأساسية. ظهر في القرن الرابع الميلادي فيلسوف وطبيب وممارس للتشي كونغ
يدعى Ko Hung ألف كتاب ( ذاك الذي عانق العقبة الكأداء ) الذي طُرِح من خلاله (لأول مرة) التمييز
بين مفهومي طول العمر البدني والأبدية الروحية اللذين ظلا ملتبسين لفترة طويلة،
مما جعل بعض الممارسين يعتقدون أن خلود البدن أمر ممكن. أوضح Ko Hung
أنه بالممارسة المنهجية يمكن تخفيف المرض وإطالة الحياة، ولكن الهدف في النهاية
يجب ألا يكون الخلود الجسماني ، بل الأبدية الروحية التي لا يمكن أن تتم إلا
بالانعتاق من البدن. إلا أنه يمكن للإنسان أن يحاول الوصول إلى الهدفين معاً لأن
العنصر المشترك في كليهما هو الطاقة. لذا يمكن للإنسان، عبر تطوير التعامل مع
الطاقة الداخلية، أن يعيش حياة مديدة، صحية وسعيدة، في هذا العالم، ويكتسب، بنفس
الوقت، الوقت الكافي والطاقة الملائمة من أجل حضور روحي أبدي في العالم الآخر بعد
زوال البدن.
أكَّد Ko Hung
من جديد على أهمية التنفس، واعتبر التنفس التجلِّي بعد الولادة للطاقة قبل
الولادة؛ لذا فهو المفتاح الأساسي لتطوير الطاقة الداخلية. جمع كو هونغ تنظيم
التنفس مع الحركات البطيئة الناعمة للـ dao-yin
ليؤسس ما سمي لاحقاً بـ"التأمل الحركي"moving meditation
(الذي ما يزال يشكل قسماً رئيسياً من ممارسة التشي كونغ اليوم)، بالإضافة إلى
تأكيده على الممارسة اليومية للـ"تأمل قعوداً" sitting meditation
من خلال طرق ثلاثة تعتمد على تنظيم الطاقة بواسطة الفكر:
1. مركز
انتباه داخلي tsun-she/
2. الوعي
الموجه نقطياً shou-yi /
3.
التذهُّن guan-siang
بالإضافة لما
ذُكِر، أسهب كو هونغ في شرح فوائد اليوغا الجنسي المطوَّرة مثنى dual cultivation
sexual yoga كطريقة سريعة نسبياً لحشد الطاقة
الداخلية من أجل الممارسة الروحية المتقدمة. تتضمن هذه الطريقة جِماعاً طويلاً دون
قذف ذكري مع بلوغ إنعاظ متكرر عند المرأة، بحيث تحصل قطبية قوية بين الرجل
والمرأة. وفي لحظة النشوة عند المرأة يحدث التحام بين طاقتي اليِنْ السالبة
واليَنْغ الموجبة في نفس الوقت عند الذكر والأنثى، بما يُحدِث توازناً
للطاقة الحيوية أو التشي، بما يوازي صعود طاقة الـ kundalini
عند الهنود إلى المراكز العليا (راجع في الإصدار الخامس من معابر بحث د.
نبيل محسن "مراكز الطاقة في الإنسان").
خلال مرحلة
السلالة الجنوبية (502-557 م)، بدأ
يظهر تأثير الأفكار الآتية من الهند، مع قدوم الراهب البوذي الغريب الأطوار Bodhidharma
الذي يسميه الصينيون Ta Mo الذي كان يلبس ملابس
مهلهلة وكان يمارس طريقة مبتدعة عن البوذية التانترية tantric yoga،
حتى اعتزاله في معبد Shao- Lin
الشهير في الصين، حيث اختلى في غرفة شديدة البرودة مدة تسع سنوات. وقد قيل إن أحد
الرهبان الصينيين كان يرغب كثيراً بالتعلُّم من تا مو، وأراد لفت نظره إليه، فقطع
يده أمامه وقدَّمها له على طبق، ولكن تا مو لم يحرِّك ساكناً.
عندما فرغ تا مو من تأمله بدأ يعلم الرهبان كيفية تقوية
أبدانهم من أجل الممارسات الروحية العليا، وبنفس الوقت علَّم ممارسي الفنون القتالية
كيفية إدخال المعاني الروحية على ممارساتهم. فقبل وصول تا مو كان الرهبان التاويون
يجلسون لفترات طويلة من التأمل السكوني قعوداً، وبالتالي يصابون بالعديد من
المشاكل البدنية؛ أما المقاتلون فكانوا يقاتلون بوحشية دون أي اهتمام بالمعاني
الروحية. أما تا مو فقد استطاع الجمع بين المنهجين في نظام واحد، وبالتالي إحداث
ثورة روحية في الصين. أدخل تا مو تمارين التنفس الهندية المعروفة بالـ pranayama
مع تمارين التمطُّط الهندية، وجمعها مع التمارين البطيئة للـ dao-yin
ولعبة الوحوش الخمسة، فكانت النتيجة التشي كونغ والفنون القتالية كما نعرفها
اليوم. وقد أصبح تا مو من بعدها المؤسس الحقيقي لبوذية التشان التي جمعت عناصر من
التاوية الصينية مع عناصر من البوذية التانترية الهندية. وبوذية التشان هذه انتقلت
إلى كوريا واليابان وصارت تدعى هناك ببوذية الزن Zen.
يُنسَب إلى تا
مو كتابان طبيان أساسيان هما: ( كلاسيكيات تغيير الأوتار ) Yi Chin Ching Changing-tendon
Classic ( وكلاسيكيات تطهير النقي ) Hsi Sui Ching
Cleansing-marrow Classic اللذين يتضمنان
أساسيات التمطُّط والتليين التي تهيئ الجسم للتأمل أو لممارسة الفنون القتالية،
حتى المراحل المتقدمة من الخيمياء الداخلية، بالإضافة إلى تحويل الجوهر والطاقة
الجنسية إلى الحيوية الروحية.
إن أهم ثورة
قام بها تا مو هي عدم الفصل بين البدن والعقل، بين الداخل والخارج، بين الحركة
والسكون، بين القوة والوعي، بين الذكر والأنثى، أو بين طرفي أي تقاطب ثنائي ضدِّي
مما يقسم المجتمعات الغربية ومجتمعاتنا، سواء في الفلسفة أو الدين أو العلم،
فيجعلها أقطاب متناوئة. فعند تا مو أن أعلى درجات الوعي هي الوصول لمرحلة عدم
تمييز وتضادٍّ بين هذا وذاك، وعلى تجاوز التضادِّ بالوصول إلى القاسم المشترك
بينهما. يقول تا مو في كتابه الأول: "من الأهمية بمكان أن نبحث عن الحركة
داخل السكون، وعن السكون داخل الحركة، وأن نتحرك بنعومة وباستمرار إلى أن ندخل
الحالة العليا."
رابعاً. سلالة
التانغ (618-906 م):
يُعتبَر هذا
العهد العصر الذهبي للحضارة الصينية، وهو مرحلة مثمرة جداً للتاوية بصورة خاصة؛ إذ
اعتبر أفراد هذه السلالة أنفسهم منحدرين مباشرة من الحكيم التاوي لاو تسه. ظهر
فيها الطبيب Sun Ssu-miao الذي بلغ 101 سنة من العمر،
متجاوزاً بذلك عدداًً من الأباطرة الذين خدمهم. ألف كتاب الوصفات القيمة Chian Chin Fang
الذي شرح من خلاله عدة طرق لشفاء الجسم بواسطة التشي كونغ. ركز كثيراً على العلاج
بالصوت وشرح بالتفصيل طريقة "سر المقاطع الستة" Six Syllable Secret.
وقد أكد عالم آخر هو Ssu-ma Cheng Chen على ضرورة التركيز
على الروح الأصلية الساكنة، الواردة في نصوص لا وتسه، وأن الطريق لإنعاش الطاقة
الروحية ling-chi تمر من تسكين عقل ما بعد
الولادة، وبمعنى آخر تعليق التفكير. فما دام الذهن (وخاصة قشر الدماغ) يعمل بأفكار
عديدة مبعثرة تبقى الروح الأصلية للوعي الأعلى نائمة؛ ولكن عندما نسكِّن الذهن
نسمح للروح الأصلية بالاستيقاظ وتحويل طاقتنا الذهنية إلى وعي أساسي صرف.
حاول بعض
الخيميائيين من جديد اللجوء إلى طرق خارجية للحصول على الجوهر الثمين، مما أدى إلى
وفاة الإمبراطور Hsien Tsung في مقتبل العمر بعد
تناوله أقراصاً تم إعدادها من معادن ثقيلة. ومنذئذٍ تم إبعاد الطرق الخارجية إلى
الأبد.
ظهر في هذه
الحقبة أيضا أحد الوجوه الهامة جداً للحكمة الصينية، اعتُبِر واحداً من الثمانية
الأزليين في التاوية، هو Lu Tung-ping. وقد أسهب في الكتابة
عن الإكسير الداخلي وأهمية الخيمياء الداخلية. يقول لو تونغ بينغ: "يتألف
الجسم البشري من جوهر وطاقة وروح، وتسمى هذه بالكنوز الثلاثة، لأن الاستنارة
والتلقائية تأتي منها. ولكن للأسف قلة قليلة فقط من الناس تدرك هذه الكنوز
الثلاثة. يتركز الجوهر فقط من خلال الطاقة، وينضبط كلا الجوهر والطاقة فقط من خلال
الروح. إنعاش الطاقة هو حفظ للروح، وحفظ الروح يتم فقط من خلال إيقاف
التفكير."
خامساً.
سلالات السونغ واليو وان (960- 1368 م):
استمر تطور
التشي كونغ في مرحلة السونغ، ونشأت مدرسة الواقعية الكاملة في التاوية، التي كان
من أهم مؤسسيها Chang Po-tuan الذي أكَّد على الخيمياء
الداخلية للكنوز الثلاثة، وعلى أنها السبيل الأساسي لطول العمر والصحة الممتازة
والاستنارة الروحية؛ ولكنه أكَّد أيضاً على التغذية والأعشاب والتمارين
الفيزيائية، وأخذ بنهج جنسي معين من أجل دعم الإكسير الداخلي. من أهم كتبه ( أسرار فتح المساري و الخواص الأربعمائة للإكسير الذهبي ) . وكان أهم كتبه على الإطلاق كتاب ( فهم الحقيقة) . يقول تشانغ بو توان: "عندما لا تنظر
العينان، ولا تسمع الأذنان، ولا يتكلم اللسان، ولا يشم المنخران، ولا تتحرك
الأطراف، عندئذٍ نقول إن الطاقات الخمسة قد عادت إلى المصدر. عندما يتحول الجوهر
إلى طاقة، والطاقة إلى روح، وتذوب الروح في الفضاء، نسمي هذا بتجمع الأزهار
الثلاثة على قمة الجبل."
من الشخصيات
الأخرى أيضاً الطبيب Wang Wei-yi الذي عالج الإمبراطور
من داء خطير ألمَّ به بواسطة التشي كونغ والتأبير acupuncture،
كان نتيجته أن الإمبراطور نفسه بدأ بممارسة التأبير، وبنى مركزاً امبرطورياً للبحث
والتمرين. صنع وانغ وِيْ يي دمية النحاس التي حدَّد عليها نقاط التأبير والمساري
الصينية كلَّها، وهي التي ما تزال مستعملة حتى يومنا هذا.
خلال حقبة
السونغ الجنوبية قام المحارب الشهير Yueh Fei
بتأسيس سلسلة جديدة من تمارين التشي كونغ، أشهرها ما يدعى اليوم بـ"قطع
البروكار الثمانية" التي تعتبر كثيرة الاستعمال والشيوع اليوم في العالم
بأكمله، ومن أكثرها فائدة وعملية لتحريض مرور الطاقة في الجسم كلِّه، مع تقوية
العضلات، تمطيط الأوتار وتليين المفاصل.
خلال عهد
سلالة يو وان المنغولية ظهر المعلِّم الكبير Chang San-feng،
مؤسس نمط من التشي كونغ الحركي المسيري، الذي يُعتبَر بحق أكثر الطرق استعمالاً
وشيوعاً في العالم أجمع، ألا وهو الـ Tai Chi Chuan.
يقول تشانغ سان فِنغ: "يقال إنه عندما تزفر، تلامس السماء وتشعر بالانفتاح،
وعندما تشهق تلامس الأرض وتشعر بالثبات. يرتبط الزفير بليونة التنين، ويرتبط
الشهيق بقوة النمر. من المهم جداً ألا يتغير مركز انتباهك وتركيزك وأنت تنتقل بين
الشهيق والزفير، بين الحركة والسكون. اضبط التنفس حتى تصل لحالة التنفس دون تنفس،
أي تصير واحداً مع التنفس، وعندها يمكن للروح أن تتركز وللإكسير الداخلي أن
يتكَّون."
سادساً.
سلالات المينغ والتشينغ (1368- 1912 م):
كانت هذه
الحقبة فترة تثبيت وجمع لكافة فروع التشي كونغ، من الفروع الطبية إلى الفروع
القتالية إلى الفروع الدينية والتأملية. بدأت الاختلافات التطبيقية للتشي كونغ بين
الفروع البوذية والتاوية والكونفوشية بالذوبان خلال تلك الفترة، بعد أن كانت
النزاعات قد وصلت أحياناً إلى نزاعات حقيقية، وأصبح التشي كونغ طريقة أو منهجاً
بحدِّ ذاته، متجاوزاً التقسيمات العشوائية. أكَّد معلُّمو التشي كونغ خلال حقبة
المينغ والتشينغ على الوحدة الأساسية بين الأزلي والمؤقت، التنفس والطاقة، البدن
والعقل، الحركة والسكون، وعلى ضرورة البحث عن الحقائق من خلال التجربة الشخصية،
وليس التعصُّب لطريقة معينة ورفض كل الطرق والمناهج الأخرى، وبذلك وضعوا لتعاليم
تا مو المذكور سابقاً تطبيقات عملية للقرن العشرين. وبهذا حقق التشي كونغ الانتشار
العالمي له في الربع الأخير من القرن العشرين.
تأسَّس في هذه
الحقبة أيضاً النمط الداخلي الثالث من الفنون القتالية وهو الـ pa kua chang،
أو "راحة يد المثلثات الثمانية"، الذي يعتمد على القيام بمناورات دائرية
مستمرة حول الشخص المقابل، مع حركات إيقاعية بالأطراف والجذع ودورانات رشيقة مبنية
على التحويلات الدائرية للمثلثات الثمانية المستعملة في علم الـ I-Ching.
من هنا، أصبح الـ tai chi chuan والـ hsing yi
والـ pa kua chang الثلاثي الحقيقي في الفنون
القتالية الداخلية التي يلعب التشي كونغ دوراً كبيراً فيها.
من أبرز وجوه
التوحيد الذي حصل في تلك الحقبة بين فروع التشي كونغ العالم والكاتب Liu I-ming
الذي قضى حياته في تجربة طرق متعددة، محاولاً تمييز الصحيح من الخاطئ، ومسهباً في
كتابة خبراته الداخلية (جمع توماس كليري منتخبات من أعماله وترجمها للإنكليزية في
كتاب اليقظة على التاو). يقول: "التاو فريد من نوعه، لا ثنوية فيه.
فلماذا يقسمه الجاهلون إلى عالٍ ومنخفض؟ عندما نكتشف أن مبادئ الحكماء هي نفسها
سنجد أن التاوية والبوذية متشابهتان. إذا لم نفهم منهجاً معيناً، ولكن بنفس الوقت
بحثنا في المناهج الأخرى، سننحو إلى التطرف، ونضيع حياتنا في خيالات وهمية."
النتيجة
الأخرى التي حصلت في نهاية هذه الحقبة هي زوال السرية التي أحاطت طوال الوقت
بالتشي كونغ، بحيث صارت هذه الرياضة متاحة لكل من يرغب بممارستها. لكن هذا
الانفتاح أتاح المجال طبعاً لبعض السلبيات ولبعض النظريات الخاطئة التي وقع في
فخها بعض الناس. ومن الأمثلة عليها ما دعي بـ"ثورة الملاكمين"، حيث
أقنعت الإمبراطورة Dowager وأتباعها المنشوريين
مجموعة كبيرة من الفلاحين والمعدمين أنه بواسطة ممارسة بعض تمارين التشي كونغ
والفنون القتالية تصير أبدانهم مقاوِمة لرصاص ومدافع الإنكليز بفضل الدرع الحديدي
الذي تعطيهم إياه التشي أو الطاقة. وكان نتيجتها، بالطبع، وفاة الآلاف المؤلفة من
هؤلاء البسطاء الحاملين للسيوف والرماح في وجه المدافع والدبابات الغربية!
سابعاً. العصر
الحديث (1912- الوقت الحالي):
يتطور التشي
كونغ اليوم بسرعة أكبر من أي وقت مضى، تدعمه البرامج العلمية في الصين والغرب. لقد
ظلت فروع الفنون القتالية والتأمل تتطور، لكن التطور الواضح هو في مجال الطب. في
نفس الوقت، ظهرت عدة صراعات بينه وبين الطب الغربي، كان أولها ما حدث في شنغهاي
عام 1929، عندما عاد طلاب طب صينيين متمرِّنين على الطب الغربي في اليابان،
وطالبوا بإزالة كل أثر للطب الصيني التقليدي من الوجود على أساس كونه خرافات من
الماضي. تكونت بعدها لجنة من كبار أطباء الصين، وتقرر نتيجتها أن تستمر ممارسة
الطب الصيني التقليدي، جنباً إلى جنب مع الطب الغربي. جاء الخطر الثاني بعد قيام
الثورة الشيوعية وما دعي بـ"الثورة الثقافية" التي أرادت إلغاء كل ما يتعلق
بالثقافة الصينية التقليدية، بما فيها الطب الصيني والتشي كونغ. ولكن، كما حدث
سابقاً، حافظ الطب الصيني والتشي كونغ على وجودهما نتيجة دعم القواد الصينيين
أنفسهم. لقد نُقِل عن ماو تسي تونغ قوله إن أهم هديتين قدَّمتْهما الصين للعالم
هما المطبخ الصيني والطب الصيني! ويعتقد كثير من الغربيين أن طول العمر الذي يتميز
به القادة الصينيون (على سبيل المثال: Deng Hsiao-ping
الذي، رغم تدخينه اليومي المفرط للسجائر وعدم الاهتمام الجيد بالغذاء، عاش 92
عاماً من الصحة الممتازة) قد يكون سببه أن كل قائد صيني يعالَج يومياً، حتى بعد
تقاعده، بطاقة أو تشي يصدرها أحد كبار معلمي التشي كونغ، بالإضافة إلى
مستحضرات نباتية. يوجد الآن في الصين بعض المشافي التي يقدَّم فيها التشي كونغ
كعلاج وحيد، سواء كممارسة شخصية أو تأثير ينبعث من معلمين اختصاصيين. وقد عالجت
هذه المشافي عشرات آلاف المرضى، بما فيها أحياناً حالات متقدمة من السرطان، مع نسب
نجاح تجاوزت أحياناً الطب الغربي أو العلاجات النباتية.