فنون عراقية
ناظم الغزالي .. فنان النهرين
الخالد
ماجد حبته
ناظم الغزالي
قبل ثلاثة وأربعين عاماً من اليوم، في (23 ـ 10 ـ 1963)، تحديدا في الساعة
الثالثة ظهرا أو عصرا، كسرت إذاعة بغداد القاعدة، وقطعت إرسالها لتعلن الخبر الذي
امتد تأثيره ليصيب العالم العربي كله بحزن بالغ: خبر وفاة ناظم الغزالي .
كان قطع البث الإذاعي يلازمه دائما إعلان "البيان الأول" لأحد
الانقلابات العسكرية، (ولم يكن قد مر سوى 7 أشهر على انقلاب شباط الدموي!)، لكن
هذه المرة اختلف الوضع واستمع من تعلقت آذانهم بجهاز الراديو إلى الخبر الذي أحدث
انقلابا في نفوسهم، وأبكاهم طويلا. "مات ناظم الغزالي".
هكذا بثت الإذاعة خبر وفاة بلبل العراق وصانع أغنياته الذي استطاع بدراية
وعلم وموهبة أن ينقل الغناء العراقي من محليته الضيقة إلى الآفاق العربية الواسعة،
وما أن بثت الإذاعة الرسمية الخبر، حتى تدافع الملايين إلى الشوارع ليسيروا في
الجنازة التي جابت شوارع بغداد، ونقلت شاشة التلفزيون العراقي وقائعها كاملة.
ثلاثة وأربعون عاماً مرت -إذن- على وفاة ناظم الغزالي، ورغم ذلك ما زال
يغني بيننا، ولا نكون مبالغين لو قلنا بأن خلال تلك السنوات لم تخل سهرة أو مناسبة
من حضوره، سواء بصوته المسجل أو بصوت مطرب يردد أغنياته، دافعا الأذن إلى استعادة
ذلك الصوت الذي لن يتكرر.
لم يكن عمره قد تجاوز الثانية والأربعين، فهو المولود عام 1921، وبين عام
المولد وعام الوفاة، رحلة من الكفاح الدافع للاحترام، والذي يجعلنا نأسف لاختطاف
الموت لمن كان بمقدوره أن يضيف الكثير والكثير إلى الغناء العربي .
كانت حياة الغزالي القصيرة ممتلئة بالمآسي؛ فقد ولد يتيمًا، لأم ضريرة تسكن
في غرفة متواضعة جدا مع شقيقتها في منطقة "الحيدرخانة"، ثم انتقلت بعد
الولادة إلى منطقة أشد فقرًا، فكانت طفولته قلقة، غامضة، عاش فيها على الكفاف.
بمنتهى الصعوبة استطاع أن يكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة، في المدرسة
المأمونية، وكان الفقر ملازمًا له، وزاد الفقر حدة بعد وفاة والدته، ورعاية خالته
له، وهي التي كانت تستلم راتبا لا يتجاوز الدينار ونصف الدينار. وبعد تردد طويل
التحق بمعهد الفنون الجميلة قسم المسرح، ليحتضنه فيه فنان العراق الكبير حقي
الشبلي نجم المسرح وقتها، حين رأى فيه ممثلا واعدا يمتلك القدرة على أن يكون نجما
مسرحيا، لكن الظروف المادية القاسية التي جعلته يتردد كثيرا في الالتحاق بالمعهد
نجحت في إبعاده عنه، ليعمل مراقبا في مشروع الطحين بأمانة العاصمة!
أبعدته الظروف عن المعهد، لكنها لم تمنعه من الاستمرار في قراءة كل ما تقع
عليه يداه، والاستماع إلى أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وليلى
مراد ونجاة علي، وكانت أغنياتهم وقتها تملأ الأسماع في مناخ كان يدعو كلا منهم إلى
الاجتهاد والإجادة، لإمتاع متذوقي الطرب، ولجعل ناظم يتعلق أكثر فأكثر بالغناء
ويحفظ أغنياتهم عن ظهر قلب، ليكتشف ويكتشف المحيطون به أن هناك موهبة غنائية لن
تكرر في حنجرة مراقب مشروع الطحين!!
الموسيقار فريد الاطرش
هذه الفترة، أكسبته طموحا غير محدود وعنادا وإصرارا على إكمال الطريق الذي
اختاره رغم الصعاب المالية والنفسية، التي واجهته، وجعلته حين يعود للمعهد يبذل
قصارى جهده ليحصل على أعلى الدرجات.
أما قراءاته فجعلته يمتاز عن زملائه بثقافته، تلك الثقافة التي ظهرت عام
1952 حين بدأ ينشر سلسلة من المقالات في مجلة "النديم" تحت عنوان
"أشهر المغنين العرب"، وظهرت أيضا في كتابه "طبقات العازفين والموسيقيين من سنة 1900 ـ 1962"،
كما ميزه حفظه السريع وتقليده كل الأصوات والشخصيات، وجعلته طوال حياته حتى في
أحلك الظروف لا يتخلى عن بديهته الحاضرة ونكتته السريعة، وأناقته الشديدة حتى في
الأيام التي كان يعاني فيها من الفقر المدقع.
"هلا
هلا".. الممثل مطرباً
عاد ناظم الغزالي إلى معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته، ليأخذ حقي الشبلي
بيده ثانية ويضمه إلى فرقة "الزبانية" ويشركه في مسرحية "مجنون
ليلى" لأمير الشعراء أحمد شوقي، ولحَّن له فيها أول أغنية شدا بها صوته
وسمعها جمهور عريض، أغنية "هلا هلا" التي دخل بها إلى الإذاعة، والتي
حول على إثرها ناظم اتجاهه، تاركا التمثيل المسرحي ليتفرغ للغناء، وسط دهشة
المحيطين به الذين لم يروا ما يبرر هذا القرار، خاصة أن ناظم كان يغني في أدواره
المسرحية، إلا أن وجهة نظره كانت أنه لكي يثبت وجوده كمطرب فإنه لا بد أن يتفرغ
تماما للغناء.
وبين عامي 1947 و1948 انضم إلى
فرقة الموشحات التي كان يديرها ويشرف عليها الموسيقار الشيخ علي الدرويش
والتي كان بها عدد كبير من المطربات والمطربين.
لم ينته عام 1948 حتى سافر ناظم للمرة الأولى خارج العراق، وكانت فلسطين هي
أولى محطاته خارج العراق؛ إذ ذهب مع الوفد الفني للترفيه عن الجيش العراقي
المتواجد في الأرض العربية المحتلة للدفاع عنها ضد العدو الصهيوني.
ومنذ بداية الخمسينيات بدأت أغنيات الغزالي تعبر الحدود،
لتصبح مثالا للغناء العراقي الذي لم نجد ما يمثله إلى الآن .
وبداية الخمسينيات هي الفترة التي شهدت تطورا وربما انقلابا ملحوظا في
غالبية مقاييس الغناء في العراق ومواصفاته، وبدأت بوادر الأغنية المتكاملة تظهر مع
أغنيات ناظم التي نفاجأ اليوم حين نسمعها بوجود لوازم موسيقية ضمن توزيع موسيقي
تعدد فيه الآلات الغربية والشرقية.
"طالعة من بيت
أبوها"، و"ماريده الغلوبي"، و"أحبك"، و"فوق النخل
فوق"، و"يم العيون السود".. تحضرني تلك الأغنيات الآن، وكلها كتبها
جبوري النجار، ولحنها ناظم نعيم، ووزعها جميل بشير، والتي يرجع فضل انتشارها في العالم
العربي كله رغم خروجها من بيئة ذات طبيعة شديدة الخصوصية، إلى أن ناظم لم يؤدها
بالشكل التقليدي، وإنما خرج فيها على الأصول المتبعة ليجعل منه أغنية عذبة سهلة
التداول والحفظ.
أما الفضل في حفظها إلى الآن فيعود إلى شركة "جقماقجي" التي بدأت
منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي في تسجيل أسطوانات كبار المطربين والمطربات
العراقيين، وطبعا كان ناظم منهم إن لم يكن أولهم؛ إذ كان وقتها المطرب الأكثر شهرة
في سماء العراق، وكان بريق نجمه يمتد ليشمل العالم العربي كله؛ الأمر الذي دفع
محمد عبد الوهاب أن يطلب من شركة "كايروفون" أن تنتج لناظم عددا من الأسطوانات
يضع بنفسه ألحانها، وكاد المشروع الكبير يتم لو لم يفسده الموت!
أنشد ناظم التراث العراقي فحبب للعراقيين حفظ تراثهم، وجذب الآذان العربية
إلى هذا التراث، وغنى أروع القصائد متقنا اللغة العربية الفصحى وناطقا لحروفها دون
خطأ يذكر، أو لا يذكر، فتمكن من أن يصل إلى كل مستمع عربي بسهولة، وقد سمعوه يغني
أروع القصائد العربية التي تدل على معرفة واطلاع واسعين.
غنى لأبي فراس الحمداني: "أقول وقد ناحت بقربي حمامة"، ولأحمد
شوقي: "شيّعت أحلامي بقلب باك" وللبهاء زهير "يا من لعبت به
شمول"، ولإيليا أبي ماضي: "أي شيء في العيد أهدي إليك يا ملاكي"،
وللمتنبي: "يا أعدل الناس"، وللعباس بن الأحنف "يا أيها الرجل
المعذب نفسه"، ولغيرهم من كبار شعراء العربية، ولولا وفاته المبكرة ربما لم
يكن ليترك كلمة في عيون تراث الشعر العربي إلا وغناها وأمتعنا بها.
هكذا أخرج القصائد من دواوينها وجعلها تجري على لسان أبسط الناس الذين
أحبوا كلماتها، وأحبوا أكثر الصوت الذي نقلها إلى أذنهم بنبرة الشجن الشائعة في
الأصوات العراقية، وإن زاد عليها نبرة أكثر حزنًا بأدائه الدرامي الذي اختلطت فيها
الحياة القاسية التي عاشها، وما درسه بمعهد الفنون الجميلة.
ثلاثة وأربعون عاماً مرت وما زال ناظم هو صاحب الصوت الأكثر صفاء ووحدة في
العالم العربي، وهو الصوت الذي صنفه النقاد ضمن الأصوات الرجالية الحادة
"التينور"، وهو الصوت الرجالي الأول في التصنيفات الغربية.
بين أوكتاف ونصف وأوكتافين، يتراوح مجاله الصوتي، والأوكتاف أو
"الديوان" بالعربية يتضمن ثماني نوتات أو درجات، وتنحصر حلاوة الأماكن
في صوت الغزالي بين النصف الأول والثاني من الأوكتافين، بهذا الشكل تكون مساحة صوت
ناظم قد زادت على أربع عشرة درجة في السلم الموسيقي، ومع انفتاح حنجرته كانت قدرته
غير العادية على إجادة الموال وتوصيل النوتات بوضوح، بجوابه المتين وقراره الجيد
في مختلف ألوان المقامات وأنواعها، وإضافة إلى ذلك كله فقد ساعدته دراسته للتمثيل
على إجادة فن الشهيق والزفير في الأوقات الملائمة.
ما حدث في عام الوفاة يؤكد أنه كان يهيئ نفسه للرحيل، فقبل وفاته سافر إلى
بيروت وأقام فيها 35 حفلاً، وسجل العديد من الأغاني للتلفزيون اللبناني، ثم إلى
الكويت، وسجل قرابة عشرين حفلة بين التلفزيون والحفلات الرسمية. وفي العام نفسه
اجتهد وبذل جهدا كبيرا ليتمكن بسرعة أن ينتهي من تصوير دوره في فيلم "مرحبا
أيها الحب" مع المطربة نجاح سلام، وغنى فيه أغنية "يا أم العيون
السود".
هل كان يحس بدنو أجله، فأصر على أن يقطع جولاته في البلاد العربية ويعود
إلى بلده، إلى العراق التي لم يمض على عودته إليه أقل من يومين لتخرج روحه بعدها
إلى بارئها.
ثلاثة وأربعون عاماً بالتمام والكمال مرت لكنها لم تزد ناظم الغزالي إلا
شهرة، ولم تزد الآذان إلا تعلقاً به.
(( كلمات اغانيه الشهيرة ))
===========================================