أدب
وفن
قصة قصيرة
إِنْ..
إنْ
بقي المنفي مغمض العينين دون حركة، متظاهرا بالنوم. وقد حل الصخب الذي سببه
الطفل بفتحه الباب ودهشته حينما وجد أباه ممددا على
الفراش أمامه. ووقف الصغير متأملا أباه بصمت. بينما
كان الآخر يحس بأنفاس ولده تدغدغ خده، مقاوما الرغبة بالابتسام. وطال الصمت أكثر
مما ينبغي، فشعر الأب بالريبة. وودَّ لو يعرف ماذا يعمل
الصبي، أو ماذا يخطط له الآن. (أن لا يمد إصبعه نحو عيني أو
منخري). هكذا فكر الأب المنفي مع نفسه، وان مشروعه في استراق راحة قصيرة بعد عمله
المضني قد تبخر. وشعر بعدم الراحة. وبدا زفير الصغير دافئا قرب أذنه مثل هرير القط.
(يقينا انه يفكر بالهجوم على عيني) ولم يستطع الأب المقاومة، وفتح عينيه ونظر الى
الطفل. وما كان من هذا الأخير إلا أن صاح جذلاً، وملوحا باصبعه
أمام وجه الأب: "بابا.. إن إن .
- اذهب عني. قالها بغضب مفتعل.
- إن إن.
- اذهب.. اذهب حباب، دعني أنام قليلاً.
كان الأب بحاجة الى الراحة فعلا. فتسع ساعات من العمل الشبيه بالسخرة لمنفيٍّ سياسي تجاوز الأربعين من العمر،
كفيلة باحالته إلى امرئ غير صالح بالمرة لفعل أي شيء. لكن الصغير ما فتئ ان همهم :
- بابا، إن إن. واشار بسبابته
الصغيرة الى الفراش. ثم طبطب بكفه على صدر أبيه حيث كان القميص مفتوحا، كاشفا عن
شعر صدره الكث الذي ملأه الشيب.
- كلا. اذهب والعب مع أخيك .
- إن.. إن. وطبطب كرة أخرى على صدر الأب. ولم يستطع هذا الأخير التملص من صغيره
وقال:
- ماذا تريد... تأتي هنا، ها؟ هيا اصعد. كلا، لاتمسك يدي، اصعد
وحدك.
قالها وهو يأمل أن صغيره سيعجز عن ذلك. ثم يتركه لوحده.
وهم الصغير بالصعود إلى السرير، طاوياً ساقيه، وهو يبحث بركبتيه عن نقطة ارتكاز
ما، ساحباً جسده الى الأعلى، وقد امسك ساق أبيه الممتدة بكفيه
الصغيرتين، لكن ركبته انزلقت. ووجد نفسه في وضعه السابق.
حاول مرة أخرى. وللمرة الثانية كان جهده نافلاً.
- إن .
ـ دبّر رأسك. لا، لا
تمسك يدي. لن أعينك على ذلك. اصعد وحدك.
ارتمى الصغير بنصف جسده الأعلى على الفراش متشبثاً بيديه الغضتين ببنطال أبيه، ثم رفع ساقه
متطاولاً على أصابع ساقه الأخرى. وما أن اراد ان يرفع جسده حتى وجد نفسه قد انزلق
للمرة الثالثة.
صاح بصوت ثاقب وهو يحتج غضباً : (إ إ إ ن ن ن).
- اشـ شـ شـ شش، لا تصرخ، دبر رأسك. هيا اصعد.
وقف الصغير متأملاً أباه برهة، ثم ابتسم.
- إن إن. مشيراً بيده نحو الفراش.
- دبّر رأسك، ولا تطلب مني العون.
شرع الصغير بمحاولة التسلق كرة أخرى. لكنه لم يفلح ايضاً.
وأخذ الأب يراقب محاولات صغيره المتكررة، وقد استهوته اللعبة كما يبدو.
(دروس في الاعتماد على النفس) قال ذلك في سره، ثم أخذ يردد بصوت
مسموع:
- (هيا ، اصعد. إي.. إي، اصعد، وحدك، لا
تمسك يدي... وبلا عون، وحدك وحدك...).
ولاحظ احمرار وجنتي صغيره، وأصطباغ اذنيه بلون الارجوان.
وتابع مناجاته المشجعة: (وحدك، وحدك..).
- إ ن ن ن ن
- اشـ شـ شـ شش لا تصرخ. لن أعينك، يعني لن أعينك.
- إ ن ن ن .
- اسكت. انتهت اللعبة. هيا، اذهب ودعني أنام.
- إ ن ن ن .
قلت لك لاتصرخ هل فهمت.
وبدأ الغيظ يتملك الرجل من عناد الصغير، واستيقظت حاجته للاستراحة.
- إ ن ن ن.
- اذهب.
- إ ن ن ن.
- اذهب إلى الشيطان.
- إ ن ن ن.
- حسناً اصعد وحدك إنأأردتَ، فاذهب. دعني أرتحْ قليلاً.
بدأ الصغير يبكي مغضباً: (با.. با .. إ ن ن .. با ..با ..إ ن ن ن..). نظر
الأب بود الى صغيره وقال بصوت هادئ:
- قلت لك دبّر رأسك. وقال لنفسه: "ولم يقولوا لي، أنا
أبوك، أن أدبر رأسي؟؟".
واستمر الطفل يبكي حانقاً. في حين تابع الأب المنفي محادثة نفسه: "هل قدم لي أحدهم
العون أو قدم لي يده. هل قدم لنا هذا العالم المنقلب على رأسه أية مساعدة. في حين
يجب... يجب ان يقف العالم على قدميه. لأن ذلك من طبيعة الأشياء.... لكنه سيقف
بالتأكيد. وآنذاك.. آنذاك فقط سيتم اكتشاف الحقيقة القديمة ان الانسان أبداً، هو
عون للانسان؟ . فكر بذلك هنيهة وقال:
- حسناً تعالَ.
ومد المنفيُّ يده الى الصغير. أما الصغير فلم ينتف شعر صدر
أبيه. فقد قبع في الزاوية على الفراش نديُّ العينينً لا يريم، جذلاً
بمكانه الجديد