فئات الوطن
اليزيدية،
وكيف تم القضاء على وجودهم بين كركوك والزاب
الأعلى
بسبب
غموض العقيدة الدينية عند طائفة اليزيدية، وما يشاع عن عباداتهم،
فقد نالت اهتمام الباحثين والدارسين والمعنيين في اصل الأعراق والأديان. ولقد كتب
الكثير عنهم في الغرب والشرق على حد سواء.
اصل
اليزيدية:
بسبب
عدم وجود تاريخ مكتوب خاص بالطائفة اليزيدية، فلقد تباينت الآراء
والاجتهادات حوله، وتباين أسلوب ودوافع واجتهادات المجتهدين بالنسبة الى
الكتبة المحليين واختلف مع ما ذهب اليه الكتبة الغربيون. بالنسبة الى الآراء التي
قال بها الكتبة المحليون فانها تأثرت الى حد كبير بالظروف التاريخية المحيطة بهم.
لقد كان للأضطهادات والمذابح التي تعرض القوم لها دوراً في الطروحات الخاصة بأصل
اليزيدية. فحالة العزل الاجتماعي لليزيدية جعلت بعض حلقاتهم العليا تبحث عن ملجأ
يوفر لها هوية ذاتية تلقى القبول من قبل الأكثرية المسلمة التي تطوقهم فظهر الرأي
القائل بان اليزيدية، هم اتباع يزيد بن معاوية الأموي. هذا الادعاء هو محض
افتراض لا يحمل أي دليل إثبات يقنع بصحة ادعائه، وكل ما في جعبة المدعين به
هو الترادف بين التسميتين، أي اليزيدية واسم يزيد بن معاوية. اذ إضافة الى
افتقارها لعنصر الاثبات كما قلنا، فان العوامل الجيوبوليتيكية تدحضها،
حيث انه من الثابت ان أبناء الطائفة يتركزون في بلاد ما بين النهرين
وتحديداً في منطقة نينوى. واذا ما علمنا بمراحل المنافسة والصراع والتصادم الذي
حصل بين العباسيين والأمويين والذي حسم بمعركة نهر الزاب التي اندحر فيها الأمويون
في سنة 750 م وقيام السلالة العباسية. هذه المعركة حصلت في منطقة جغرافية كان
أبناء الطائفة اليزيدية يشكلون فيها نسبة عالية من السكان. فهل يعقل ان يتسامح
المنتصرون مع مجموعة تدعي بانها امتداد لخصمهم الذي هزموه؟ وهل كان العباسيون عاجزون عن الانتقام من
اتباع يزيد الأموي في الوقت الذي قاموا بأعمال انتقام الذي لامجال لذكره او من
المناسب الإشارة اليه. وبناء عليه فان تنسيب الطائفة اليزيدية الى يزيد بن معاوية
هو ادعاء يستند الى افتراض وهمي لا يعتمد عليه او يعتد به.
الرأي
الثاني من الآراء المحلية الخاصة بأصل اليزيدية، وجدير بالإشارة اليه هو
الادعاء بالأصل الكردي لليزيدية، ويذهب أصحاب هذا الرأي، في تبرير ما يدعون به الى العامل اللغوي
الذي بموجبه اعتمد اليزيدية اللغة الكردية
(اللهجة الكرمانجية – البهدينانية)
كلهجة للتخاطب. هذا الادعاء هو الآخر ليس ما يسنده سوى الرابطة اللغوية
التي ما كان لها ان تحصل لولا الضغط واللاتسامح الذي تمارسه الأكثرية في تعاملها
مع الأقلية وان محاولة الانتقاء اليزيدي وتنسيب الانتماء الكردي لهو محاولة تدحضها
الكثير من الأمثلة والشواهد الاثنية القائمة في المنطقة. اذ ان اليزيدية ليسوا
العنصر الاثني الوحيد الذي يتحدث بهذه اللغة، حيث ان بعض الجماعات الأرمنية
لاتعرف لغة للمخاطبة سوى الكردية كما هو حال 200 عائلة ارمنية تسكن مدينة زاخو
وكذلك القرى الأرمنية الواقعة ما بين فيشخابور وقرية محمد ربان على امتداد نهر
دجلة (مقابل سميل) . هؤلاء الأرمن
لا زالوا حريصين على عقيدتهم المسيحية ويزاولون طقوسهم الدينية. والشيء ذاته يقال
عن اتقان أبناء الطوائف الآشورية من الذين يجيدون اللغة الكردية الى جانب السريانية.
وعنصر الافشار التركماني في اذربيجان ايران تنتشر بينهم اللغة الكردية كانتشارها
بين الآشوريين. ان تمكن هؤلاء من هذه اللغة لا يغير شيء في انتمائهم العرقي
والديني. اما من الناحية الجغرافية والتاريخية فان مناطق سكن اليزيدية تثبت وجودهم
في بلاد اشور قبل ظهور كردي واحد في عموم المنطقة بقرون عديدة.
الكتبة
الغربيون والأصل الآشوري لليزيدية
على
عكس أراء الكتبة المحليين، التي كانت دوافعها في تحديد أصل اليزيدية،
تنطلق من دوافع سياسية، تهدف الى كسب خاص، او منطلقة من محاولة ايجاد
هوية ذاتية تؤهلهم للقبول العام من قبل الغالبية، فان ما توصلت اليه أبحاث
ودراسات هؤلاء الغربيين الميدانية،
والمعتمدة على استقراء الواقع،
وارتباطاته التاريخية، تلقي الكثير من الضوء ليس فقط عن اصل اليزيدية
وحسب، وانما من خلال تتبع قائمة
الرحالة والمستشرقين والباحثين من الذين تناولوا الموضوع فاننا نجد فيما ورد
بكتابات السلسلة الطويلة من هؤلاء، ما يساعد على تكوين تصور عن أصلهم من
خلال الفترة الزمنية التي قصد فيها المعنيون مناطق سكن اليزيدية. فلقد زار بلاد
اشور رحالة القرن الثاني عشر، رابي بنيامين الططلي ووليام دي روبروك وتبعهم
آخرون، هؤلاء لم يشيروا الى اليزيدية رغم مكوثهم لفترة ليست بالقصيرة في
المناطق التي هي حاليا موطن هذه الطائفة وكانوا فيها في السابق.
ما
يثير الانتباه هو قيام الرحالة والباحثين الغربيين بالإشارة الى أبناء هذه الطائفة
منذ بداية الاحتلال العثماني، أوائل القرن السادس عشر. إلا ان الدراسات
المكثفة عنهم بلغت اوجها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث زارهم
وعاش وسطهم الرحالة الدنماركي كارسن نيبور اوائل النصف الثاني من القرن الثامن عشر
والقنصل الانكليزي في بغداد السيد ك. رج خلال السنوات 1820 – 1821 والدكتور أساهيل
كرانت وتوماس لوري سنة 1839 والدكتور وليام أنسورث الانكليزي، سنة
1840 وتبعه الدكتور جورج بادجر سنة 1843. اما عالم الآثار الشهير السير هنري
لايارد الذي عاش وسطهم لسنوات طويلة، ابتداء من عام 1846 وظل على اتصال بهم
وبأحوالهم بعد تعيينه بمنصب سفير بلاده في الربع الأخير من القرن ذاته. إضافة الى
هؤلاء فهناك العشرات من الذين كتبوا مفصلاً عن اليزيدية واصلهم وعقائدهم.
ما
يميز أراء أغلبية الكتبة الغربيين هو اتفاقهم على أن اليزيدية هم بقايا سكان بلاد
ما بين النهرين القدماء، وان آرائهم هذه مبنية على واقع توزيعهم الديمغرافي
وعراقة سكنهم في بلاد اشور وتحديداً حول عواصمها التاريخية واستمرار الكثير من
الطقوس وعادات العبادة عندهم والتي كانت سائدة عند قدماء الآشورين والبابليين
والصابئة، وسط اليزيدية الذين قاموا بدراستهم. فلقد قدم لايارد على سبيل
المثال شواهد وأدلة مما اكتشفه أثناء تنقيباته في نينوى، من منحوتات،
فوجد مطابقة ما هو مستخدم من قبل اليزيدية المعاصرين مع ما كان قائما
وممارسا بين الآشوريين القدماء في نينوى، وبين ما هو مستخدم حالياً،
وهو رمز الطاووس المقدس. والشيء ذاته عن طقوس الصابئة.
اليزيدية
عبر التاريخ
لقد
خلت السجلات الملكية الآشورية من أي إشارة الى أجداد اليزيدية المعاصرين، من
الذين يسكنون القرى العديدة المحيطة بالعواصم الآشورية. كما ان الوثائق التي
وردتنا عن الفترة المحصورة بين سقوط نينوى وبابل 612/539 ق.م، وحتى ظهور
المسيحية، خلت هي الأخرى من أي إشارة الى وجود طائفة لها صلة باليزيدية
الذين كانت مناطق سكن أجداد المعاصرين منهم تقع ضمن أراضي المملكتين،
الآشوريتين الشهيرتين: حدياب واورهاي.
اما
في العصر المسيحي فان السجلات والوثائق الخاصة بالكنيسة الشرقية، والتي
تميزت بتدوينها للأبرشيات القائمة وسط الأقوام العرقية المختلفة، خلت هي
الأخرى من أي إشارة الى وجود عنصر مميز كالطائفة اليزيدية. الا ان سجلات الكنيسة
وفرت لنا الكثير من الأدلة والشواهد التي تساعد على إلقاء الضوء على أصل اليزيدية
المعاصرين، حيث تعزز من دون شك الآراء التي أوردها الكتبة الغربيون عن أصل
هذه الطائفة، وارتباطها ببقايا سكان بابل واشور. ونورد من بين الأدلة
الكثيرة ثلاثة لها ارتباط مباشر بأكبر مناطق تجمعهم وتمركزهم، إضافة لما
لها من علاقة بممارسة طقوسهم الدينية في الوقت الحاضر:
1
- قرية باعذري:
هذه
القرية التي تقع عند لحف جبل القوش، في منتصف المسافة ما بين عين سفني
والقوش، خدمت خلال القرون الماضية، كعاصمة دينية ومدنية لليزيدية،
حيث هي مقر أميرهم الذي يزاول السلطتين الدينية والمدنية. باعذري هذه إضافة
الى كون تسميتها سريانية/اشورية خالصة، فانها كانت من القرى المسيحية ذات
المكانة المميزة في الكنيسة الشرقية. ويبدو ان مكانتها هذه اهلتها لان تكون موقع
لمجمع الكنيسة الشرقية الذي انعقد في سنة 486 والذي يعرف بمجمع مار برصوما،
العلامة الشهير، مطران نصيبين،
والمدافع الصلب عن هذه الكنيسة.
باعذري
ظلت على مسيحيتها الى ان خربها التتار ابان فترة غزواتهم. القرى اليزيدية المجاورة
لباعذري، كانت هي الأخرى مسيحية، حيث شواهد المسيحية لاتزال قائمة
فيها، مثل الأديرة المحيطة بقرية بوزان او في غيرها.
2
– مزار الشيخ عادي:
مزار
الشيخ عادي الواقع في كلي لالش ما بين أتروش وعين سفني، يعتبر من أقدس أقداس الطائفة اليزيدية، يقصده اتباعها
من جميع مناطق تواجدهم، بغية تأدية الفروض الدينية. ما يميز موقعه هو كونه
محاط، حتى الوقت الحاضر، بقرى وتجمعات اليزيدية. هذه التجمعات ظلت
تحيط به تأريخياً، رغم ما تعرضت اليه الطائفة من اضطهادات عبر القرون
الماضية، ويشكلون ما يعرف بالكثافة اليزيدية في قاطع الشيخان، الذي هو
احد مراكز تواجدهم في المناطق الشرقية. في حين تمثل سنجار مركزهم الغربي.
الشيخ
عادي، وحسب المصادر الشرقية والغربية، كان ديراً تابعاً للكنيسة
الشرقية، وكان يعرف باسم دير “مار أدي“ حيث كان يمثل مركزاً للتجمعات
المسيحية المحيطة به قبل ان تهجر المسيحية،
وتعتنق العقيدة اليزيدية وان غالبية رهبانه كانوا من المناطق المجاورة له.
ويبدو
انه بعد الاضطهادات المغولية، والدمار الشامل الذي الحقه تيمورلنك،
فان مجموعة من اتباع الكنيسة الشرقية خلال فترة المذابح هذه، اختارت
ما يكفل لها النجاة من المذابح الجماعية، باعتناق عقيدة تلقى القبول من
تيمورلنك. وهكذا ظل الرهبان في دير مار ادي والقرى المحيطة به في مواضعهم. الا ان
التغير حصل في التسمية الذاتية الخاصة بهم، فاصبح اسم الدير يعرف بـ “الشيخ
عادي“ بدل “مار ادي“، في حين برزت التسمية اليزيدية، للمجموعة
التي اعتنقت عقيدتها المعروفة في الوقت الحاضر، والتي هي مزيجاً ما بين
الصابئية والزاردشتية والعقائد الإسلامية والمسيحية.
3
- سنجار
تعتبر
سنجار من معاقل الطائفة اليزيدية القوية. ومن دون التوغل في تاريخ سنجار العريق،
نشير الى ان المدينة ولغاية القرن السابع عشر كانت مقراً لكرسي مطرانية
للكنيسة الشرقية. في مدينة سنجار،
آثار شاخصة تدل على تجذر مسيحيتها. وفي جبلها لا يزال هناك شواهد الكثير من
الأديرة، وكذلك في المناطق المجاورة له. ففي جبل سنجار، ما بين
مدينة سنجار وقرية كرسي اليزيدية، الواقعة على الجهة الغربية للجبل،
لا تزال شاخصة، جدران دير برطورا، في القمة الثانية للجبل. في
حين لا تزال شاخصة آثار دير آخر، في القمة الثالثة التي تشرف على السهول
الشمالية لبلاد ما بين النهرين.
ورغم
ان سنجار تعتبر من معاقل اليزيدية كما نوهنا، فان هذه المنطقة هي الأخرى خلت
من الإشارة الى يزيديتها في القرون السابقة لعاصفة تيمورلنك.
المؤرخون
واليزيدية
اذا
كانت فترة ما يزيد على الالف عام من العصر المسيحي، تخلو وثائقها التاريخية
من الإشارة الى اليزيدية، كطائفة بخواصها المعروفة اليوم. فإضافة الى خلو
الوثائق الخاصة بالكنيسة الشرقية، من الإشارة اليهم، فان ما تركه
مؤرخو الفتوحات الإسلامية، والبلدانيون والجغرافيون العرب، خلت هي
الأخرى من الإشارة اليهم. ورغم التفاصيل الدقيقة لمراحل الفتوحات والأقوام التي
شملتها، فلم تجر الإشارة اليهم من قبل المؤرخين والبلدانيين المذكورين،
وليس هناك من ذكر لابناء الطائفة اليزيدية. اما مؤرخو الفترة المغولية التي
أعقبت سقوط بغداد سنة 1258 فلا تشير هي الأخرى الى وجود الطائفة المذكورة.
وإذا
كانت الفترات التاريخية المنتهية بنهاية الحكم المغولي في الشرق الأوسط سنة 1336
قد خلت من ذكر اليزيدية بالشكل المتعارف عليه في الوقت الحاضر، فمن المنطقي
ان يستنتج المرء بان ظهور هذه الطائفة، قد حصل اما أواخر الفترة المغولية او
بعدها. ونحن هنا لا نملك الا الاجتهاد – في غياب النص – وبناء على ما تقدم،
وما حصل في المنطقة من تطورات، رسمت الملامح السياسية والفكرية
والدينية فيها، والتي كان أبرزها فترة تيمورلنك، الذي تميز، بزرع بذور الخارطة المذهبية،
القائمة في الشرق الأوسط في الوقت الحاضر. فلقد كان من نتائج تعصبه الديني،
وتفضيله لعقائد واجتهادات معينة دوراً في بروز طرق صوفية غريبة. ولقد ترك
شواهد حية لنزعته هذه الى يومنا هذا، حين عمل على تغيير العقيدة الدينية في
ايران، وتشجيعه للمذهب الشيعي. فقد جعل بيت الشيخ صافي الاردبيلي،
الذي كان يتزعم الطريقة الصوفية السنية، يغير عقيدته، ويعتنق
الطريقة المفضلة عند تيمورلنك، وهي الشيعية. وحين آلت السلطة السياسية في
ايران لحفيده الذي اتخذ اسم الشاه إسماعيل الصفوي، فكان أول عمل قام به،
هو فرض المذهب الشيعي على ايران واعتبره دينا رسميا للبلاد. لذا لا يستغرب
ان تكون المجموعة التي اعتنقت اليزيدية كعقيدة دينية لها، قد حصلت على نفس
الخطوط، وضمن نفس الأجواء التي حصلت فيها حركة التشيع في ايران،
وبتأثير مباشر من تيمورلنك. وكان من نتيجتها ضمان سلامتهم، وتجنب
مذابحه. ولكن لا يستبعد – وفي غياب نصوص مكتوبة كما قلنا – ان تكون بداية العقيدة
اليزيدية، مغايرة لما آلت اليه في الفترات اللاحقة.
مجد
ونكبات اليزيدية
كما
نوهنا فان أبناء هذه الطائفة يلقبون اليوم من قبل الأغلبية المسلمة بلقب اليزيدية،
عبدة الشيطان. الا ان آشوريو الجبال والسهول لا يعرفونهم بهذا اللقب،
وانما التسمية الشائعة بينهم هي تسمية “دسناي“ نسبة الى اقليم داسان،
في شمال بلاد ما بين النهرين، والذي كان يمثل جزءا هاماً من أبرشية الكنيسة
الشرقية. هؤلاء “الدسناي“ او اليزيدية، عاشوا وسط التجمعات الآشورية في
مناطق حدياب، وسهول نينوى،
والجزيرة العليا واختبروا التجارب المريرة، التي اختبرها الآشوريون
وكان لهم تجربتهم المميزة، خلال القرون الخمسة الأخيرة.
أسوة
ببقية العناصر الدينية، والاثنية، اختبر أبناء الطائفة اليزيدية،
مرحلة التسامح العثماني، ابان فترة السلاطين العظام، من ال
عثمان وتمتعوا بحرياتهم الدينية، والسياسية، طوال فترة قوة العثمانيين. ولقد قدم الحكام نموذجاً فريداً لما
يمكن ان تكون عليه حالة الاقليات، من ازدهار، حين يعدل الحكام في
تعاملهم مع الاقليات.
خلال
الفترة الذهبية، من تاريخ اليزيدية، تحت الحكم التركي، يذكر
المؤرخين الاتراك، بانه في بداية
الحكم العثماني لبلاد ما بين النهرين،
فان السلطان أناط المسؤولية الادارية لاربيل، ومسؤولية دياربكر، الى امير يزيدي من اربيل، ممن كان
يستند الى دعم وتأييد، اتباعه المنتشرين الى رواندوز ذاتها، إضافة الى
المناطق الأخرى التي يتواجدون فيها بكثافة، لا سيما المناطق الممتدة بين
الزاب الأسفل، وسهول نينوى،
والجزيرة. وخلال الفترة هذه عبر اليزيدية عن كونهم رعية مخلصة لوطنها،
وحكومتها، فقاموا بخدمتهما على خير وجه، وبالمقابل مارس
اليزيدية وبكل حرية شعائرهم الدينية، وازدهرت حياتهم الاقتصادية. ولقد شاهد
نيبور ما كانوا عليه من نجاح في الحقول الاقتصادية، فذكر بان اليزيدية
القاطنين في المناطق المجاورة لأسكي كلك
(اختفوا منها فيما بعد) ، هم متعهدو النقل النهري في منطقة الزاب.
الانحطاط
العثماني ومأساة اليزيدية
مما
يثير الانتباه هو عدد أبناء طائفة اليزيدية ابان الاحتلال العثماني لبلاد ما بين
النهرين، اذ قدرت أعدادهم بمليون وربع إنسان. واذا ما كانت حالة اليزيدية قد
ازدهرت ابان عظمة العثمانيين، فان أحوالهم العامة ابان فترة الانحطاط،
ساءت من جميع النواحي أسوة بما حصل لبقية الاقليات الاثنية والدينية الأخرى
في بلاد ما بين النهرين. فحل محل الامتيازات والحريات، الكبت والمذابح
الجماعية. وكانت البدايات الأولى لمأساة اليزيدية، تعرضهم الى عملية إخلاء أرضهم التاريخية، فجرت ضدهم
هجمات متواصلة من قبل الاكراد الصورانيين، ادت الى تقلص تدريجي في وجودهم
الكثيف في مدينة رواندوز والمناطق المجاورة، فتراجعت مع الوقت تجمعاتهم
باتجاه السهول.
الا
ان سنة 1743 تعتبر بداية لمأساة اليزيدية في التاريخ الحديث. ففي هذه السنة،
حصلت لهم النكبة الكبرى ـ أثناء هجوم نادر شاه على بلاد اشور، بجيش
جرار قوامه 300 الف مقاتل. واذا ما علمنا بان نادر شاه، استطاع اعتلاء سدة
الحكم في ايران بمساعدة قوة مسلحة مشتركة، من الاكراد، والافشار،
فاننا ندرك المصير الذي كان ينتظر اليزيدية، خلال هذا الهجوم. فاثناء
وجود نادر شاه في كركوك، أشير عليه
بوجود عناصر كافرة تعبد الشيطان، تسكن في طريقه وهو يقصد الموصل، فالتمس منه، القضاء على هؤلاء
الأشرار. فنفذ نادر شاه ما طلب منه، وهو يزحف باتجاه الموصل. فأوقع السيف في
رقاب من لم يستطع الهرب والنجاة. ولقد شهدت سهول أربيل، والجزيرة العليا،
عمليات ذبح التجمعات اليزيدية، تماما كما حصل لأبناء الشعب الآشوري
في هذه المناطق.
المماليك
والأكراد ومذابح اليزيدية
التطورات
التي شهدتها المنطقة، مباشرة بعد غزوة نادر شاه، تمثلت في بروز كيانات سياسية، دأبت على تحقيق تطلعاتها
وأطماعها، من خلال تحويل البلاد، الى ساحة معركة، كان وقودها
الاقليات الدينية والعرقية. حصة اليزيدية من الاضطهادات والمذابح كانت عالية جداً.
اذ قام مماليك بغداد، بحملات إبادة
سنوية، ضد التجمعات اليزيدية،
بالتعاون مع الاكراد الصورانيين، حيث كان النهب، والسلب،
وقتل الرجال، وسبي النساء والصبايا، يمارس بكل قسوة ونشاط.
ولقد استمرت معاناة اليزيدية هذه طوال فترة حكم المماليك، الممتدة ما بين
عام 1747 – 1831.
اضطهادات
اليزيدية تحت الحكم التركي
الاتراك،
مع استهلال حملة اعادة سيطرتهم المركزية، على المراكز المستقلة
العديدة، في بلاد ما بين النهرين، الحقوا الدمار الشامل، في هذه
البلاد، خلال عقدين من الزمن،
استغرقتها حملتهم لفرض السيطرة المباشرة على العناصر غير التركية. ولقد عكس
الاتراك خلالها، أسوأ ما في الشخصية التركية، من سلبيات، خلال فترة الانحطاط. وبقدر تعلق الامر
باليزيدية، فان كبرى نكباتهم، جاءت على يد محمد باشا الرواندوزي، الشهير محليا باسم مير كور، الذي شن حملات دموية مستمرة ضد التجمعات
اليزيدية، في قاطعي الشيخان، وسنجار، خلال السنوات الممتدة، ما بين 1831 و 1836 وبمباركة
وتشجيع الباشا التركي في بغداد، علي رضا باشا، الذي اكرمه على قيامه، مع عشائر شمر جربة العربية،
بتدميرهم في قاطع السنجار.
اما
نكبة يزيدية الشيخان، فأهوالها تمثل واحدة من النكبات المأسوية في التاريخ،
اذ عمل السيف في رقابهم امير صوران محمد باشا الرواندوزي (1826 – 1836) حيث طارد من لم يسعفه الحظ بالهرب من مناطق سكناهم في الشيخان،
والقرى العديدة الممتدة أمام جبل القوش، ما بين الشيخان ونهر دجلة،
وجميع قراهم في سهول نينوى، هؤلاء طاردهم الى خرائب نينوى،
المقابلة للموصل والتي قام واليها، برفع الجسر الخشبي، عن
النهر، للحيلولة دون عبور اللاجئين الى المدينة، خشية ملاحقة أمير
رواندوز لهم، فكان قدرهم، الوقوع في قبضته، في تلك المنطقة،
فقضي عليهم قضاء تاما، لم يميز في مذبحته، بين طفل، وشيخ، او رجل وامرأة، ولقد
أشار الى الحادث مفصلاً لايارد.
وحين
سقطت الموصل بيد الباشا التركي، محمد إنجة بيرقدار، سنة 1835 واصل
وبشكل أعنف، ما كان قد بدأه أمير راوندوز، في سهول نينوى،
ومنطقة سنجار، وما كان قد تم من تدمير، على الجبهة الشمالية
بقيادة الصدر الأعظم السابق،
(رئيس الوزراء) محمد رشيد
باشا، الذي قدم السنجار، مدمرا كل ما له صلة باليزيدية، خلال
سنة 1834 واستمر بحملات اخضاعهم
(الى جانب حملاته ضد المراكز الكردية والآشورية في طورعبدين) الى وفاته.
حملات
بيرقدار، كانت ذات مميزات خاصة: فلقد قام بحملات دورية منتظمة، ضد
أبناء الطائفة اليزيدية، والتي كانت غايتها، إضافة الى القتل والسلب
والنهب، أخذ النساء والصبايا، وبيعهم كعبيد، او تقديمهم كهدايا،
الى المسؤولين الاتراك لضمهم الى حريمهم، الا انه ادخل تقليدا جديدا، في أعمال اضطهاده لهؤلاء التعساء، التي اعتمدها بعده،
الزعيم الكردي، بدرخان بك، في تعامله معهم في منطقة بوتان،
ومع آشوريي تياري، وحكاري، خلال مذابحه لهم ما بين 1843 – 1846.
هذه العادة، كانت قطع آذان الضحايا،
وتعليقها على أبواب مدينة الموصل، بغية ارهاب أبناء الموصل،
والامتثال الى أوامره. وخلال فترة حكمه الدموي، الممتدة ما بين 1835
والى 1844 لم تخل أبواب مدينة الموصل
(وهي عديدة) من آذان
اليزيدية البؤساء.
واذا
كان قدر اليزيدية ان يقوم مماليك بغداد،
بالتعاون مع الاكراد، بالقضاء على وجودهم الكثيف، ما بين
كركوك، والزاب الأعلى، وقيام
مير كور، بتحطيم وجودهم في سهول
نينوى، ولم يبق من أعدادهم الهائلة، سوى بضعة آلاف، في سهول
نينوى وقاطع سنجار، فان زعيم اكراد
بوتان (منطقة الجزيرة) بدرخان بك، قد اكمل ما كان قد بدأه الصدر الأعظم المشار اليه. اذ برز
نفوذه القوي في المنطقة، بعد وفاة هذا الصدر الأعظم، ومنذ عام 1840
وحتى صيف 1847 كان السيد الذي لا منازع له، في المنطقة التي كانت كثافة
اليزيدية فيها عالية، أسوة بما كانت عليه في شرق الزاب.
بدرخان
بك، عامل اليزيدية، بنفس
القسوة التي عامل بها أبناء تياري وحكاري، أثناء مذابحه المشار اليها. غير
ان اليزيدية، وبحكم كونهم ضمن منطقة
حكمه المباشر، وهيمنة التعصب والهستيريا الدينية، عند الحلقات العليا
من اتباعه، والتي كان هو شخصيا، احد المتأثرين بهم، جعله يعامل
اليزيدية، بطريقة أقسى بكثير، من جميع ما اختبره القوم في السابق. لقد
خير بدرخان بك، اليزيدية بين السيف،
والإسلام، ولم يدع لهم خياراً ثالثاً. كثيرون اختاروا السيف، وقتلوا من دون ان يهتز ايمانهم بعقيدتهم،
آخرون اختاروا الإسلام، وخلال
اقل من عقد من الزمان، فان الوجود
اليزيدي الكثيف في منطقة الجزيرة، اصبح شبه معدوم.
وخلال
ما تبقى من فترة الحكم العثماني،
فان اليزيدية استمروا يتحملون الظلم والاضطهاد، بصمت، أسوة ببقية الاقليات الدينية، والعرقية، ولم يبق
منهم في مطلع القرن العشرين الا نسبة قليلة تكاد لا تذكر، حيث يعيشون اليوم في مناطق الشيخان
وسنجار مع بعض التجمعات الصغيرة في سوريا وجورجيا التي هرب اليها من الاضطهاد من
استطاع الهرب.