كلمة العدد
احياء الهوية الوطنية..الخلاص الوحيد امام العراقيين..
ان الاعوام
الاخيرة، والكوارث المتلاحقة التي
لا زال يعاني منها وطننا، جعلت
الغالبية الساحقة من العراقيين يدركون بصورة واقعية وعملية معنى (الانتماء الى الهوية العراقية) .
ان هذا المبدأ، لم يعد نوعا من
البطر الاستثقافي الذي تتغنى به اقلية من الحالمين الذين لا يعترفون بالواقع. بل
صار الامر على العكس تماما: ان الرافضين لمبدأ الهوية الوطنية، هم اهل البطر والخيال الذين يريدون بناء
امبراطوريات قومية واسلامية واممية كبرى،
بالوقت الذي فيه هم عاجزون عن توحيد وطننا وانقاذ شعبنا من الفرقة
والاحتراب!
صار واضحا للناس، ان الدعوة للهوية الوطنية العراقية، هي بكل بساطة دعوة الى الواقعية واحترام
امكانياتنا نحن ابناء هذا الوطن الذي اسمه عراق، لكي نتدبر حالنا ونشترك بادراة بلادنا بصورة عادلة
وعقلانية، من دون أي تعصب واستحواذ
طائفي وقومي وحزبي. أي بكل بساطة ان نطبق ذلك المثل العراقي المعروف: (مد رجليك على قد غطاك..) ، ان نمد ارجلنا ونصوغ شعاراتنا على قد
بيتنا العراقي، ونترك تلك المشاريع
الطوباوية عن (الوحدة العربية من
المحيط الهادر الى الخليج
الثائر) وعن (كردستان الكبرى من الخليج الى
البحر) وعن (الخلافة الاسلامية من
الهند الى البلقان والاسبان) .. وهكذا دواليك..
ان المشكلة
الكبرى التي تعاني منها الوطنية العراقية،
هو ذلك المرض العضال الذي اسمه (التعصب القومي والطائفي) ، المنتشر في الطرفين الاساسين المتحكمين
في الوضع العراقي: الدولة والاحزاب! !
الاحزاب
ودورها في دولة المحاصصة
ان الدولة العراقية الحديثة، منذ تأسيسها عام 1921، ظلت تعاني من سوء
التقسيم الطائفي والقومي (سيطرة عروبية سنية) ، وإن بصورة غير معلنة،
رغم ان الوقائع والارقام تؤكد هذا المرض الذي كان السبب الاول في كل الاضطرابات
السياسية والاجتماعية التي سادت تاريخنا الحديث. وزاد الطين بلة، عندما لجأت الدولة العراقية بعد الاحتلال
الامريكي، الى نظام (المحاصصة القومية الطائفية) بحجة التخلص من الظلم الطائفي والقومي
السابق!
من الخطأ اعتبار نظام
المحاصصة الطائفية والقومية، هو
قرار امريكي فرضه (بريمر) ، بل هو
وليد طبيعي وشرعي لتلك الثقافة القومية والطائفية السائدة لدى جميع الاحزاب
العراقية ومنذ سنوات طويلة. جميع الاحزاب،
الصغيرة والكبيرة، هي اما
قومية (عروبية وكردوية وتركمانوية وآشورية.. الخ) ، او دينية طائفية،
شيعية سنية.. وهي جميعها لها طمومحات ومشاريع امبراطورية قومية ودينية تمتد
خارج حدود العراق وتشمل دول شرق اوسطية او عربية اواسلامية عديدة. اما الحزب
الشيوعي الذي كان مهيمنا على الحياة الثقافية العراقية طيلة اجيال، فأن الوطنية العراقية بالنسبة له، ظلت ضبابية وثانوية مقارنة بأهمية
الانتماء الطبقي والارتباط الاممي بباقي الاحزاب والدول الشيوعية.
هكذا اذن، ان المبالغة بالدعوات الامبراطورية الخارجية بأسم القومية
والدين والاممية، ادت الى عكسها
تماما: حالة الانكماش والانعزال الداخلي على الذات الطائفية والقومية والحزبية.
ومن ابشع مظاهر هذا الانكماش هو نظام المحاصصة الطائفية والقومية. حتى الحزب
الشيوعي، وافق على الدخول في
البرلمان حسب نظام المحاصصة!
لهذا، ان خلاص بلادنا من (داء المحاصصة) الذي استشرى مثل السرطان في كل اجزاء
الجسم العراقي، يتطلب العلاج الجذري
للطرفين الفاعلين في هذه المعادلة: الدولة والاحزاب:
اولا، نعم للمحاصصة المناطقية.. وكلا للمحاصصة القومية الطائفية
ان المدافعين
عن نظام المحاصصة الحالي، يطرحون
حجة تبدو مقنعة وقوية:
ـ اذا لم
نراعي نظام المحاصصة هذا، هنالك
خطورة ان غالبية طائفية او قومية معينة هي التي تسيطر على مقاليد الامور، كما كان يحصل دائما في تاريخ العراق
الحديث!
نعم هذه حجة
تبدو معقولة.. لكن هنالك حل واقعي وعقلاني معمول به تقريبا في جميع الدول
الديمقراطية، حتى في الانظمة
الفدرالية. فمثلا، رغم انه في
امريكا، ثمة تنوع طائفي (كاثوليك
وبروتستان) ، وديني (مسيح ومسلمين
ويهود وغيرهم) وقومي
(انكلوساكسون وايرلند وايطاليين ولاتينيين،
وغيرهم) وعرقي (بيض وسود وهنود حمر) ..الخ.. لكن لم
يفكر احد ابدا، ان يتم العمل
بالمحاصصة حسب هذه التقسيمات الاجتماعية العديدة، بل تم الاعتماد على التقسيمات الادارية. أي حسب الانتماء
للولايات وتوابعها. فقد يمثل نيويورك شخص اسود بروتستان، او كاثوليكي لا تيني، وقد يمثل واشنطن شخص يهودي او مسلم..
الخ. نفس الحال في المانيا المنقسمة بين كاثوليك وبروتستان، ثم اضيف اليهم اخيرا المسلمين. كذلك
فرنسا، التي تحتوي على قوميات
عديدة، بروتون والزاس وباسك وكورس
واكسوتان، بالاضافة الى المسلمين.
إذن يحق لنا نحن ابناء العراق ان نقول:
نعم للمحاصصة، ولكن على اساس الانتماء للتقسيمات
الادارية المعمول بها في الوطن. يعني ان يتم اختيار الوزراء والبرلمانيين وكوادر
الدولة، حسب الانتماء للمحافظات
العراقية. مثلا، قد يخرج من محافظة
اربيل اشخاص منهم الكردي والتركماني
والسرياني من ابناء المحافظة ليمثلوها في الحكومة وفي البرلمان. ونفس
الحال، قد يخرج من محافظة البصرة
اشخاص منهم الفيلي والسني والصابئي.. وهكذا دواليك جميع محافظات العراق..
وهذا سوف
يؤدي، اننا عندما نتحدث عن الكادر
الفلاني، لا نقول انه سني او شيعي
او كردي او تركماني، او سرياني، بل نقول انه من المحافظة الفلانية.
ثانيا، تبني الاحزاب العراقية لمفهوم الهوية
الوطنية
قد يبدو للوهلة الاولى هذا المقترح صعبا او ربما مستحيلا. فكيف يمكنك ان
تفرض على احزاب مختلفة الآيدلوجيات والاتجاهات، ان تتبنى فكرة واحدة؟ !
لكننا نجيب، ان الامر على
العكس تماما. ان الغريب والعجيب واللامنطقي هو السائد حاليا بين احزابنا. فنظرة
بسيطة لغالبية بلدان المعمورة، تجد
أن مبدأ (الاقرار بالهوية
الوطنية) هو مبدأ طبيعي وعادي
وتلقائي وسائد بصورة لا تقبل الجدل،
مهما اختلفت آيدلوجيات الاحزاب. فكيف يمكن لحزب سياسي ان يحصل على شرعية
العمل العلني والمشاركة في البرلمان وهو في آيدلوجيته وثقافته الحزبية لا يقر دستور بلاده، ولا يعترف بحدودها، ويعتبر دولته وحدود وطنه حالة وقتية
ومناقضة لطموحه ببناء دولة دينية او قومية على انقاض بلاده الحالية؟ ؟ ! ! !
كيف لحزب ان يحصل على الشرعية،
بل ان يقود السلطة في بلد،
وهو بنفس الوقت لا يحمل حتى اسم بلاده، ولا يعترف بعلمها،
بل يطالب بالانفصال عنها وتقسيمها؟ ؟ ؟ ! ! !
نعم ان الغريب
والعجيب واللامنطقي هو السائد حاليا بين احزابنا ودولتنا. وان مطلب الاقرار
بالهوية الوطنية هو مطلب اولي وطبيعي وشرعي تقره كل الشرائع الدولية والضمير
الوطني والانساني.
ان الفترة الحالية تشهد تنامي حالة
اقتناع غالبية العراقيين، بأن الحل
الوحيد امام شعبنا هو بالتمسك بـ (الهوية العراقية) كخلاص وحيد بوجه الدمار الوحشي الذي اثارته (ثقافة الفرقة والتعصب) وتقديس الهويات المتناحرة، القومية والطائفية. ان المثقفين العراقيين خصوصا ومعهم كل
الخيرين من ابناء الامة العراقية مطالبين بأن يمارسوا الضغط بكل الوسائل
الثقافية، كتابات وحوارات
ورسائل، على جميع الاحزاب الفاعلة، الحكومية والمعارضة،
لكي تتبنى مفهوم (الهوية العراقية) ، مع حفاظها على خصوصيتها الدينية والقومية:
ـ لتتحول
الاحزاب الدينية الشيعية والسنية،
الى احزاب (اسلامية عراقية)
بعقيدة اسلامية وطنية وانسانية خالية من الصبغة الطائفية المقيتة. احزاب
تحمل اسم العراق وتنتمي الى الاسلام العراقي، اسلام جعفر الصادق وابي حنيفة والمعتزلة واخوان الصفا والكندي
والجاحظ وعبد القادر الكيلاني وجميع
عظماء الاسلام العراقي، وان تفتخر
بتاريخ العراق بكل مراحله، دون أي
لبس وغموض. احزاب تمثل كل القوميات المسلمة العراقية، عرب واكراد وتركمان وفيلية وشبك وكاكائية، وترفض بصورة علنية التبعية الفكرية
والسياسية لأي دول اسلامية.
ـ لتتحول
الاحزاب القومية العروبية والكردية والتركمانية والآشورية وغيرها، الى احزاب وطنية عراقية وتتخلص من تلك
المشاريع الامبراطورية الساذجة والغير عملية، عن الوطن العربي الاكبر، وكردستان الكبرى،
وتركيا الوطن الام،
وآشورستان، وغيرها من
الطروحات القومية التوسعية المنافية للهوية العراقية والرافضة لحدود العراق
الحالية..
ـ لتستثمر
الاحزاب الوطنية واليسارية العراقية،
مثل حركة الوفاق والحزب الشيوعي،
ومنظمات اليسار العراقي، هذه
الفرصة التاريخية التي مل فيها العراقيون من كل الدعوات التقسيمية القومية
والطائفية، من اجل الاعلان الصريح
والصادق عن تبني مفهوم (الهوية العراقية)
وتتصدر المرحلة التاريخية القادمة التي ستشهد (احياء الامة العراقية)
بثقافة وطنية انسانية تعددية وسلمية.
ان مأساة السنوات
الاخيرة اقنعت غالبية العراقيين ان مفهوم
(الهوية الوطنية) و(الامة
العراقية) هو الحل المعقول والعملي
القادر على لم شمل جميع الفئات العراقية مهما اختلفت قوميا ودينيا ومذهبيا، مع التأكيد على ان هذه (الهوية الوطنية) ليست تعسفية وقسرية والغائية للهويات
الفرعية. يعني يمكن للعراقي ان يعتز اولا بعراقيته وانتمائه المشترك الى جميع فئات
الوطن المختلفة، بنفس الوقت يمكنه
ايضا ان يعتز بهويته الفرعية الدينية والمذهبية والقومية والمناطقية وحتى
العشائرية، بصورة انسانية ووطنية
تقوم على المحبة والتضامن مع باقي فئات الوطن.