الحقبة
الاسلامية
عوني عمر
لطفي/ تركيا
مقهى تركمانية في القرن الماضي
لاحظ الزي الشعبي التركماني هو ذاته الزي الشعبي
البغدادي
مما يستخرج من النصوص التاريخية المتعلقة بكركوك وعموم
شمال العراق: أن العشائر التركمانية كانت متواجدة بكثافة ومتحكمة سكانيا وفعليا في المناطق الكردية الحالية،
وخصوصا في اربيل وكركوك. بل كثير من الاحيان كان الصراع في المنطقة تركماني- تركماني،
مما يدحض نظرية كردستانية المنطقة من الوجهة التاريخية. ان الإعتبارات السياسية لا
الجغرافية، هي التي تخلط بين مفهوم الوطن كحقيقة متجسدة في أرض الواقع ، وبين
التوظيف السياسي للمفهوم الجغرافي لمنطقة معينة. فلا يتصور أن يقام كيان سياسي
بصفة دولة على مفهوم جغرافي في الأصل مثل الشرق الأوسط اوتركستان أو أرض آشور أو ميزوبوتاميا
أو تركمانيا أو أرمنستان أو الهند الصينية أو إقليم الهند والسند. كذلك،تعد
دياربكر في تركيا أو الأندلس وطنا عربيا في الوجدان والمخيلة العربية التاريخية،
وليس وطنا بالمعنى السياسي في الواقع والحقيقة. فينبغي التمييز بين المفهوم
الجغرافي وبين التأسيس السياسي بناء على هذا المفهوم. هنا جردة سريعة في هذه
النصوص التاريخية حول كركوك.
نصوص من القرن السادس للهجرة
تدل المدونات التاريخية الإسلامية بدلالات متواترة إلى
وجود تركماني كثيف في المناطق
الكردية الحالية بذاتها، وليس في كركوك والمناطق المجاورة لها التي يسود توافق لدى
عموم المؤرخين على طابعها التركماني. ولما كان إدراج هذه النصوص أو الإشارة إلى
جميعها متعذرا لكثرتها، أستلُّ منها نماذج مما ورد في (الكامل في التاريخ) لابن
الأثير في حوادث سنة627 هـ بشأن ظهور أمير من أمراء التركمان اسمه
"سونج" (بفتح السين وكسر الواو وسكون النون) ولقبه شمس الدين واسم
قبيلته "قشيالوا"، فقوي أمره وقطع الطريق وكثر جمعه، وكان بين إربل
(اربيل) وهمذان... ثم تعدى الى قرية منيعة اسمها "سارو" من أعمال إربل (ولعلها تعني الصفراء
بالتركية)، وهي لمظفر الدين (كوكبري التركماني)، وقتل أميرا كبيرا من أمراء
مظفرالدين، فجمع مظفرالدين جمعاً وأراد استعادتها منه فلم يمكنه لحصانتها ولكثرة
الجموع مع هذا الرجل. فاصطلحا على ترك القرية بيده. ويستطرد ابن الاثير بأن
"سونج" هذا استولى على قلعة "رويندوز" (راوندوز حاليا) من
قلاع آذربيجان.
وقد دل الذهبي وابن الاثير وكتاب التواريخ على الوجود
التركماني الكثيف في مناطق الموصل والجزرة وشهرزور وآذربيجان والشام. ففي وقائع
سنة 581 هــ. أخبارعن إبتداء فتنة كبيرة بين التركمان والأكراد في تلك النواحي
المذكورة، ( قتل فيها من الخلق ما لايحصى، ودامت عدة سنين، وتقطعت الطرق، وأريقت
الدماء، ونهبت الأموال... وقامت التركمان على قدم وساق وقتلوا جمعا من الأكراد،
فتناخت الأكراد وقتلوا في التركمان، وتفاقم الشر ودام، إلى أن جمع الأمير مجاهد
الدين قايماز (التركماني) رحمه الله عنده جمعا من رؤوس التركمان والأكراد وأصلح
بينهم، وأعطاهم الخلع والثياب، وأخرج عليهم مالا جمّا، فانقطعت الفتنة) والنص هنا
منقول عن الحافظ الذهبي في (تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والاعلام). وكذلك دل
على كثافة الوجود التركماني في تلك المناطق نص ابن الاثير في وقائع 628 هــ بشأن
وصول طائفة من التتر من آذربيجان إلى أعمال إربل فقتلوا من على طريقهم من التركمان
الإيوائية والأكراد الجوزقان وغيرهم
إلى أن دخلوا بلد إربل فنبهوا القرى وقتلوا من ظفروا به من أهل تلك الأعمال،وعملوا
الأعمال الشنيعة التي لم يسمع مثلها من غيرهم.
وبرز
إليهم مظفرالدين (كوكبري التركماني) صاحب إربل في عسكره واستمد عساكر الموصل...
فلما بلغه عود التتر إلى آذربيجان أقام في بلاده ولم يتبعهم (يعني إلى آذربيجان)،
فوصلوا إلى بلد الكرخيني (وهي كركوك) ودقوقا (جنوب كركوك) وغير ذلك وعادوا (أي
التتر) سالمين لم يذعرهم أحد ولا
وقف في وجههم فارس.
ويبين بن
خلكان في وفيات الأعيان أن زين الدين علي المعروف بكجك (وهو أبو مظفرالدين
كوكبوري) صاحب إربل، ملك إربل وبلادا كثيرة في تلك النواحي، وأنه سار عن الموصل
الى إربل سنة 563 هــ.، وسلم ما كان بيده من البلاد والقلاع الى أتابك الموصل قطب
الدين (التركماني)، فمن ذلك سنجار وقلعة عقر الحميدية وقلاع الهكارية جميعها
وتكريت وشهرزور وغير ذلك، وما ترك لنفسه سوى إربل. وقد دل ذلك أيضا على وجود
تركماني في تلك المناطق بناء على الطبيعة العشائرية في الحاكمية والإعتماد عليها
في ضمان الولاء وفرض السلطة.
ونجد أن الذهبي ينص في وقائع سنة 596 هــ بشأن سنقر
الطويل الناصري، الملقب بفلك الدين (تركماني)، أنه كان ذا قرب من الإمام الناصر.
فألحقه بالزعماء وجعله من كبار الأُمراء، وأقطعه تكريت ودقوقا. وفي وقائع سنة 622
هجرية (1225 م.)- وهو سنة وفاة الناصر- يذكر تاج الدين علي بن الساعي في (الروض
الناضر) أميرا آخر من أعظم الأمراء الإيوائية هو فلك الدين غازي بك بن قفجاق
المشهور بالإقدام والفروسية وحسن السيرة والتواضع. وكان من الأمراء الناصرية في
الكرخاني (كركوك). فدخلت كرخاني في مملكة إربل بانضواء هذه الأخيرة إلى حماية
الخليفة الناصر لدين الله وانفصالها عن الدولة الأيوبية. وقد إمتدت إمارة غازي بك
بعد الناصر إلى أيام الإمام الظاهر ثم الإمام المستنصر بالله. وإن هذه الوقائع
تؤيد ديمومة تركمانية هذه المنطقة بالنظر إلى استمداد القوة في الحكم من الواقع
العشائري.
ومن الحوادث في تلك المدة الدالة على تركمانية كركوك وما حولها: ما ورد في (الكامل) لابن
الأثير في وقائع سنة 534 هجرية في ذكر مُلك زنكي لشهرزور وأعمالها فقال: (مَلَك
أتابك زنكي شهرزورَ وأعمالهَا وما يجاورها من الحصون، وكانت بيد قفجاق بن أرسلان
تاش التركماني(الإيوائي ويقال الإيواقي أيضا)، وكان حكمه نافذا على قاصي التركمان
ودانيهم، وكلمته لا تخالف، يرون طاعته فرضا. فتحامى الملوك قصده، ولم يتعرضوا
لولايته لهذا، ولأنها منيعة كثيرة المضائق، فعظم شأنه وازداد جمعه، وأتاه التركمان
من كل فج عميق...). وكان الأمير قبجاق أو قفجاق من أمراء السلاجقة، فعظم أمرُه
وعلى شأنُـه واستولى على كورة شهرزور وما جاورها من الحصون ومنها كورخيني (كركوك).
فحسده أتابك زنكي كما ذكرنا - وهو عمادالدين زنكي بن اقسنقر مؤسس الدولة الأتابكية
في الموصل (نقلا عن العلامة مصطفى جواد في مقالته المشهورة في مجلة اهل النفط)- ،
فانتزع تلك البلاد منه سنة 1139 ميلادية. لكن بقي قسم كبير من المنطقة تحت حكمهم
إلى النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي. وتأمل في الإشارة الواضحة إلى قدوم التركمان إليه من كل صوب
ودلالتها على وجودهم حتى في تلك المناطق القصية عن كركوك بمقاييس ذلك الزمان. ثم
يأتي إلى ذكر انتصار الأتابكية عليه وانضمامه إليهم واستقرارالأمر على ذلك إلى
حوالي 600 هجرية.بل تدل الوقائع إلى أن الإمارة القفجاقية الصغيرة قياسا بالإمارات
التركمانية الأُخرى، والتي حكمت في شهرزور وكركوك والمناطق المجاورة، كانت تعتمد
على قاعدة عشائرية تركمانية كثيفة. فقد جمع الأمير قفجاق (وفي لفظ قبجاق) عشرة
آلاف فارس لينجد السلطان السلجوقي مسعود في خضم النـزاع على السلطنة. إن عشائر
إيوة (أو ييوة) من العشائر التركمانية الزاخرة التي توجهت مع السلاجقة من بلادها
نحو الغرب، فهيمنوا على بلاد الجبال من همدان إلى شهرزور وإربل. فبعد إنتزاع
عمادالدين زنكي بن آق سنقر شهرزور من قفجاق بن أرسلان تاش، نقل قسما من هؤلاء
الإيوائية إلى نواحي حلب لمقاتلة الصليبيين. وكان على رأسهم الأمير ياروق. فدخلوا
صفحات التاريخ باسم الياروقية. هذه الوقائع المختصرة تبرز كثافة الوجود التركماني
في المنطقة من جهة، وطبيعة التكوين العشائري لجيوش الأمراء من جهة أخرى. وتذكر
التواريخ من الحوادث إبان ذلك، إنفصال
أمير كرخين(كركوك) عزالدين بن حسن بن يعقوب بن قفجاق بن ارسلان تاش(وانظر
إلى نسبه ومكانه من هؤلاءالإيواقية الذين حكموا المنطقة ردحا من الزمان) عن الدولة
الأتابكية، في خضم السجال الطويل على السلطة، وانضوائه إلى حماية الخليفةالناصر
لدين الله العباسي، ثم عتب الخليفة وإنكاره على صلاح الدين الأيوبي، لأن مظفرالدين
كوكبري أمير إربل المذكور (وهو زوج أخت صلاح الدين وأحد أمرائه الأشداء حينذاك) قد
إعتقل الأميرَ القفجاقي عزَّالدين بن حسن، أميرَ كرخيني (كركوك)، سنة
587هجرية1191م، فأمره الخليفة الناصر بإعادته إلى كركوك وبالغ في ذلك. وهو من
دلالات سلطة بغداد المعنوية على هذه البلاد وأمراء دولها، واستمداد الشرعية من
الولاء للخلافة. وهذا الحال مشهور ومتواتر.
وقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان بأن سكان شهرزور من أكراد شداد
لايسلمون أُمورهم لغيرهم ولها قلعة حصينة يتحصنون بها، إلا أنه أردف بأنهم أسلموا
أمرهم لمظفرالدين كوكبري،واستكانوا له، واستتب له الأمر والمقاليد. وقد مرت نصوص
آنفا عن شهرزور، وغيرها كثير.
وقد نص ابن فضل الله العمري في (مسالك الأبصار) في أواسط القرن
الثامن الهجري على وجود كردي محدود في نواحي دقوق أو (دقموق الساقية) وبلاد
الكرخين (أطراف كركوك بعمومها) التي تلي الحسنانية ببلاد الكركار، وتشاركهم (الفرماوية!)
في آخر الخفارة المأخوذة في دربند (قره بيلي). وهذا الدربند يقع في الطرف الشرقي
بإتجاه الحدود الإيرانية حالياً. وقد سمي بهذا الأسم نسبة إلى أمير تركماني فرض
هيمنته مع عشيرته على تلك النواحي. ويلاحظ أن هذا الوجود الكردي المحدد بسبعمائة
فارس مرة، وألف فارس مرة أُخرى، يشكل إمتدادا لعشائر متوطنة أصلاً في المناطق
الجبلية. وأيضاً، يشير العمري في عدة مواضع إلى تداخل سكاني في صميم مملكة الجبال
من أُُصول أُموية عربية وأُخرى فارسية وتركية. ونلاحظ أنه يسمي المنطقة باسم مملكة
الجبال وليس باسم كردستان التي لم تكن شائعة التداول في ذلك الزمان.
هذه النصوص وغيرها تؤيد وجودا تركمانيا كثيفا حتى في
المناطق الكردية الحالية والتأريخية، من كركوك وما جاورها. ولكنها في كل الأحوال ،
تحسم الحاكمية السياسية التركمانية لها على امتداد الدول التركية السلجوقية
والزنكية/ الأتابكية والقره قوينلية والأق قويونلية والتيمورية وغيرها، وأخيرا
العثمانية.. ألا يجعلها ذلك وطنا تركمانياً بقدر أو آخر في المخيلة والوجدان
التاريخي السياسي التركماني، كما هو وطن كردي في المخيلة والوجدان التاريخي
الجغرافي الكردي؟ ألا يوجِد ذلك تدافعاً متناقضاً في الحجج عند إسقاط الكيان
السياسي على تلك المناطق البعيدة عن كركوك من جهة الحقوق التاريخية؟ ألا يلقي ذلك
بظلامية الشك على أحقية المطالب السياسية الكردية التي تسند بالحقوق الجغرافية
بالدرجة الأولى والتاريخية أحيانا؟ وكيف يصح التسليم للإسقاطات السياسية الحالية
على المفاهيم الجغرافية وامتداداتها، من غير روية أو طول تأمل، إلى كركوك وما
جاورها، وهي لازالت محافِظة على طابعها التركماني؟ وهل يعقل أن يفلح الهرج السياسي
والصخب الإعلامي والتمويه على الوعي
والعقل والقوة الغاشمة والأمر الواقع؟ وزد على ذلك بشأن كركوك خاصة، إتخاذ أمراء
من الإيوائية ومن بعدهم القره قوينلية كركوك معقلاً ومقراً لحكمهم، يلجأ إليهم من
يدور عليه الزمان من أمراء التركمان، ويُخرِجون منها الجيوش. بل إن إسم كرخيني أو
كرخاني أو كرخينا تحول رويداً رويداً إلى كركوك في العصر التركماني السلجوقي
والقره قوينلي حتى اشتهر واستقر عليه في القرن التاسع الهجري، أي الخامس عشر
الميلادي. فإن الصعود الحقيقي لنجم كركوك في التاريخ بدأ في عصر السلاجقة، واستمر
في العهد العثماني، ولم يخبت حتى الآن. وليس مبالغة إن قلنا إن كركوك من صنع
التركمان، وإن تاريخ كركوك هو جزء من تاريخ التركمان في العراق، وإن كركوك من غير
الثقافة التركمانية مدينة لا يعرف لها أب.
نصوص من القرن العاشر للهجرة
لقد استقرت كركوك تحت السلطة العثمانية وتحددت ملامح
الحدود العراقية الحالية مع إيران رغم الصراع المرير مع الصفويين، منذ ما يسمى
بسفر العراقيين (عراق العرب وعراق العجم) بقيادة السلطان سليمان القانوني للجيش
بنفسه، والتي اكتملت في سنة 1536 م. ومن عادة العثمانين عند فتح البلدان أن
يُنظِّموا سجلات دقيقة للأغراض المالية، تسمى (دفاترالتحرير). ومنها الدفتر المفصل
للواء داقوق وكركوك الذي نظم سنة 955 هــ (1548 م). ويحتوي الدفتر على سجلات
بأسماء الأشخاص ووضعهم الإجتماعي (متزوج أم أعزب) ورؤساء البيوت والطوائف والعشائر
والحرفيين (خياط ،جزار، حداد) والوظائف ورجال الدين، وتشير إلى صلة القرابة مع
بعضهم إن وجدت، وأديانهم، وأحوالهم الإقتصادية... وغير ذلك. وفي دراسة لهذا السجل
نشرت بالتركية تم تثبيت اسم 7420 رجلا في لواء داقوق وكركوك، يستنبط فيها أن
الغالبية العظمى من السكان هم من التركمان أ- بدلالة أسمائهم وألقابهم (مثل الله
ويردي، شاه قولي، ديلنجي، بايرام، طوسون) وصلة القربى المثـبّتة فيما بينهم، ب -
وبدلالة ما ورد في السجل من أسماء القرى والمحلات والأزقة والمساجد والتـرع ومنابع
الماء والمعالم الأخرى الصغيرة أو الكبيرة، وباستنباطٍ يعتمد على علم تحليل
الأسماء الخاصة (اونوماستك)، وأسماء الأماكن (توبونيمي)، ومنشأ أسماء الأشخاص
وتكاملها (انتروبونيمي). علماً بأن السجل ورث هذا التكوين الإجتماعي من الدول
التركمانية السابقة التي لم ينقطع حكمها للمنطقة كلها. بل حتى الحكم الصفوي هو حكم
تركي. إن هذا الوضع الذي توصلت دراسة الوثيقة إليه، يؤيد الفحوى الإجتماعية
للمدونات التاريخية التي نقلنا نطفاً منها فيما تقدم. غير أن أهمية هذه السجلات هي
أنها وثائق تقدم معلومات مثبتة ميدانيا، فتنفعنا في الدراسات التاريخية واستخراج
الأحوال الأجتماعية والإقتصادية وغيرها بصورة موثقة. هذا، ويوجد زخم هائل من
الوثائق العثمانية تؤيد تركمانية كركوك وما جاورها من المناطق. وقد إخترنا هذه
الوثيقة لقيمتها الميدانية، ولأن الفاصل الزمني بينها وبين بعض الوقائع التاريخية
التي نقلنا نماذج محدودة منها هو حوالي أربعة قرون، لتشكل بمجموعها أمثلة مستمرة
في الذهن تدل على دوام النسيج
الإجتماعي على الحال نفسه طوال المدة التاريخية.
ومع وضوح
الصورة التاريخية، فلا بأس من الإشارة إلى حوادث تزيد الصورة وضوحاً وتأييداً،
ترجع إلى حوالي القرن من تاريخ هذه الوثيقة. فإنه حين توجه أمير دولة قره
قوينلو(قره يوسف) لقتال جيش دولة الجغتاي التركية في الشرق، كانت كركوك مقر حكم
ولده الميرزة إسكندر. فلما وافاه الأجل قبل إلتقاء الجمعين، فرح (قره يولك)، أمير
دولة الأق قويونلي المنافسة في الشمال الشرقي، بقدر فرح أمير الجغتاي، لعلمهما
بدراية قره يوسف وقوة شكيمته وحكمته. فانتهز(قره يولوك) الفراغ الحاصل بموته،
وتحرك للإستيلاء على ماردين. وكان الأمير إسكندر في كركوك حين وفاة والده. فلما
بلغه توجُّهُ ( قره يولك) إلى ماردين، ضمّ إليه أميرَ الموصل زينل بك بن علي يار،
وحاكم أربيل ميرزه علي، وجمْعاً من زعماء عشيرة دوكر (التركمانية)، وسار مسرعا نحو
نصيبين، فقاتل قره يولك في موقع شيخ كندي قتالاً شديداً، وألحق به هزيمة منكرة(سنة
1421م) . وقد شد هذا من عضد إسكندر بك، فانضوى إليه التركمان الذين كانوا مع
إخوته، والتفوا حوله. لكن قوات الجغتاي بقيادة شاهروح بك حاصرت أخا اسكندر بك،
الميرزة إسباند، في قلعة بايزيد بتحريض من قره يولوك بك، وبذَلَ العون له ببقية
قوته المتقدمة نحو(وان). فدافع إسباند بك عن القلعة دفاعاً مستميتاً، لكنه خسر
المعركة في النهاية، منسحباً نحو(موش) ليلتقي بأخيه اسكندر بك الموجود حوالي
الجزيرة(الجزرة) كما ذكرنا. فلما جمع أسكندر بك أمراءَ القره قويونلية أبناءَ قرة
يوسف، وزعماءَ عشائرها، على رأس جيش بلغ أربعين ألفاً لقتال الجغتائية والأق
قوينلية الذين بلغ جمْعُهم أضعافَ ذلك، فهزموا الأميرَ اسكندر. ولسنا هنا بصدد وصف
مجريات هذه المعارك وشخصية إسكندر بك المتميزة. بل التأكيد على البنية العشائرية
التركمانية الواردة في هذه الأخبار، ولهذا الجيش الضخم الملتف حول أمير دولة واسعة
الأطراف مقره في كركوك. إذ تصف المصادر ميمنة الجيش بقيادة بـير حسين على رأس
عشائر سعدلو، ومعه في الميمنة بـير محمد أخو إسكندر بك على رأس عشائر ألباغوت.
وكان قائد الميسرة أخاه ميرزة إسباند مع ولديه شهسوار بك وبايرام بك. فهذا التكوين
للجيش القره قويونلي، مثلما جيوش وتكوينات الدول التركمانية الأخرى التي كانت
المنطقة برمتها ملعباً لخيولها، يدل على الوجود الكثيف للتركمان في المنطقة عموماً،
وفي كركوك وما حولها خصوصاً. ومن جهة أخرى، تؤيد هذه الوقائعُ النتائجَ
الأجتماعيةَ التي أشرنا إليها والمستحصلة من الدراسة التركية المهمة لتلك الوثيقة
العثمانية العائدة إلى زمن يعقب هذه الحوادث بحوالي قرن واحد، ليثبت أن العثمانيين
ورثوا الواقع الإجتماعي والوجود التركماني ولم يؤسسوه، كما يزعم بعض المدعين من
غير تمحيص. بل كما يريد بعض المظللين التمويه على عقول الناس بتكرار مثل هذه
الأباطيل والدجل الهادف إلى إضعاف الدور الوطني للتركمان ومحاصرتهم والفَتّ من
عضدهم.
مسؤولون عثمانيون في كركوك
كركوك
في السالنامات العثمانية
إن (سالنامة) مركبة من كلمتين فارسيتين هما (سال) ومعناها
السنة، و(نامه) ومعناها الرسالة أو المتن المكتوب. فالمعنى هو المتن المكتوب
السنوي. وقد دأبت الدولة العثمانية في دورها الأخير على إصدار هذه السنويات (وإن
كانت دوريات لا تلتزم السنة الواحدة) وتوسعت فيها لتكون مرجعاً للمعلومات عن
الولايات في مختلف شؤونها وأحوالها لتعتمد عليها الدولة في الإدارة. وعينت موظفين
أكفاء لتثبيت هذه الشؤون والأحوال بأوجهها كافة. فالسالنامات العثمانية تعد وثائق
رسمية ذات مصداقية عالية ومعتمدة في شتى العلوم باعتبارها مرجعاً للمعلومات
المدققة محلياً وشهوداً من قبل موظفين معينين لهذا الغاية. ويقصد منها تشكيل قاعدة
بيانات إحصائية معتمدة في الدولة العثمانية في ذلك العصر، على غرار دوائر الإحصاء
وسجلات النفوس ودوائر المالية المتطورة في دولنا الحالية. ولذلك إعتبرنا الشهادات
التي أشرنا إلى الشيء القليل منها والتي تؤيد معلومات (سالنامات) ولاية الموصل
تأييداً كاملاً، دليلاً إضافياً على مصداقيتها، وعاملاً لإزالة أي لبس قد يتولد في
ذهن من لم يعرف كركوك عن قرب أو لم يعش فيها. وهي في الوقت نفسه، تُعدّل وتُقوّم
المعلومات غير المنضبطة، أوالمتسرعة، أوالمستقصدة أوالموسوعية العامة المنقولة من
مصادر غير موثوقة تماما، أومتهمة بسوء النية، كما سنأتي على بعضها، وإن كانت قليلة
العدد بالقياس إلى المصادر التي تؤيد الطابع التركماني للمنطقة. وربما تكون تلك
المعلومات منقولة عمن لم يعاينوا الواقع فينقلون مما يسمعون أويقرأون من غير تدقيق
وتمحيص. فلابد من التمحيص قبل إصدار الأحكام. فمثلاً لذلك: كتاب المعجم الجغرافي
للإمبراطورية العثمانية
Dictionnarie Geographique I`Epire Ottoman لمؤلفه سي. موستارس، قنصل روسيا في
إزمير سنة1863، ونشرته(الاكاديمية الامبراطورية للعلوم بالفرنسية) في بطرسبورغ سنة
1873، وفيه يلحق خوبة (بالقرب من الحدود الجورجية - التركية على البحر الاسود)
الواقعة في ولاية طرابزون ذلك الوقت، بلواء كردستان العثمانية (نواحي دياربكر).
ويلحق قصروق (قصروك قرب عقرة الحالية) بولاية بغداد وشهرزور (هكذا جمعا ومعا!).
ويجعل كربلاء في ولاية بغداد وشهرزور (هكذا أيضا!!).ويضع الموصل في ولاية وان!!!.
فكيف يعتمد على مثل هذه المدونات الإستشراقية عن العالم الإسلامي المجهول عند
بعضهم إلى هذه الدرجة من غير تمحيص ومقارنة وقياس بمصادر موثوقة ؟ وأين مثل هذه،
من شهادات المؤرخين المدققين العراقيين أو الذين عاشوا في العراق أو المتخصصين
المعاينين؟. لذلك، فان سالنامه ولاية الموصل تعد وثيقة عثمانية تصحح المعلومات
الموسوعية والتاريخية التي قد تناقضها، وفي الوقت نفسه ترفع من قيمة أمثالها التي تتوافق معها، وخاصة مع
التأييد الجم من الوثاق الأخرى والشهادات التاريخية والشخصية بشأن الطابع
التركماني لكركوك وماجاورها. فبمطالعة سالنامات ولاية الموصل، سنجد فيها بيانات
إحصائية ووصفية عن أحوال السكان والعشائر والإقتصاد والعمران والطبيعة والطقس
والتاريخ والتقسيمات الإدارية والموارد المالية. ونلاحظ مدى اهتمامها ودقتها في
التوصيف المفصل بمطالعة ما ورد فيها من عدد الدكاكين والحمامات والمساجد والكنائس
والخانات والأنهر والسواقي والمراقد والمحلات وعدد الجنود والرتب العسكرية
والوظائف المدنية وأسماء شاغليها والقرى والمدارس والسمات البشرية السائدة واللغات
واللهجات وأنواع الحيوانات الأهلية والوحشية وأنواع المحاصيل الزراعية والصناعية
في البلدة أوالمنطقة... وغير ذلك من المعلومات المفيدة في الدراسات والعلوم. لقد
طبعت سالنامة ولاية الموصل الأولى سنة 1308 هـ /1890م. وتصف هذه الطبعة لواء
شهرزور، ومركزها كركوك، بأن التركية والكردية والعربية فيها مستعملة وجارية، وأن
العبيدية والعشائر الأخرى موجودة في جنوب اللواء ولسان الأهالي هو اللسان التركي
والكردي والعربي (وهذا التسلسل المكرر للمرة الثانية منقول نصاً من عبارة
السالنامة). ثم طبعت سالنامة ولاية الموصل الثانية سنة 1310 هــ ، وهي أوسع من
الاولى، إذ بلغت 212 صفحة مع ملحق تأريخي للولاية. وقد ذكرت أن لغة الكلام في داخل
سنجاق شهرزور هي التركية والكردية والعربية بهذا التسلسل ومن غير تفصيل حسب المدن،
وكما في سالنامة الموصل الأولى. ثم أجري تطوير وتوسيع على المعلومات الواردة في
سالنامة سنة 1312 هـ فبلغت 452 صفحة مع ذكر تفاصيل أدق عن السناجق كلها. وبخصوص
النفوس في مدينة كركوك أوردت الإحصائيات الآتية: ((باعتبارالذكور فقط ، عدد
المسلمين 12461 وعدد الكلدان 229 وعدد (اليهود) 380 مجموعهم 13071 من الذكور. فبإضافة عدد مثلهم من الإناث،
مع عدد لا يقل عن ثلاثة آلآف من الأجانب (من غير أهل المدينة) يبلغ عموم نفوس
المدينة 29140 شخصاً... وأهالي المدينة عموماً أتراك يتكلمون التركية، أما الغرباء
فجلهم عرب وكرد وقليل من العجم)) (الصفحة 298-299). ثم تنص على وجود قرى تركية
كثيرة في جوار كركوك أكبرها قرى تسعين وبشير وتازة خورماتو، والتي كل منها تحوي
حوالي مائتي بيت. ثم طبعت الطبعة الرابعة سنة 1325 هــ / 1906 في 253 صفحة من غير
ملحق تاريخي. فبينت مرة أخرى: ((إن أهالي المدينة أتراك يتكلمون التركية وإن معظم
الغرباء هم عرب وكرد مع قليل من الإيرانيين... وأن عدد الذكور في مدينة كركوك
26510 مسلم و 432 كلداني و 463 (يهودي) مجموعهم 27405 ذكور، فيضاف إليهم بقدر ذلك
من الإناث، وما لا يقل عن ثلاثة آلاف من الأغراب، فيبلغ مجموع نفوس المدينة 57810
شخصا)) (ص 212). ويشير إلى وجود عشائر العبيد والصالح وبني نعيم من العشائر
العربية الكبيرة في قضاء كركوك، وشوان وشيخ بزني من العشائر الكردية، وكذلك يشير
الى وجود الجبور(ص213).