شخصية وذكريات
مدينة تسعين.. شهيدة الحقد القومي
والطائفي..
عاصف سرت توركمان/ كندا
ولد (عاصف سرت توركمان) في (محلة جقور – مصلى) في مدينة (كركوك) عام
(1957)، وهو الابن الاكبر في عائلة (سرت توركمان). نشأ وترعرع في جو سياسي وأدبي
حيث كان والده المرحوم (الشاعر أسماعيل سرت توركمان) من كبار الادباء والشعراء في
كركوك، وهو أول من كتب النشيد القومي التركماني (آند اولسون ماوى آسمانم سنا) أي
(قسما بسمائك الزرقاء يا وطني)، حيث كان الطلاب ينشدونه صباح كل يوم في تحية العلم
في جميع المدارس في مناطق التركمان (تركمان ايلي) ابتدءاً من تلعفر الى مندلي. أما
خاله فهو الفنان المرحوم (عبد الواحد كوزه جي) الذي أوصل الفن التركماني الى ذروته
من خلال المقامات(الخوريات) والاغاني التي قدمها للتركمان طوال أكثر من خمسين سنة.
بدأ (عاصف) تعليمه الابتدائي في محلة المصلى بكركوك ومن ثم أنتقل الى مدرسة
تسعين الابتدائية ومن ثم المتوسطة حيث تخرج منها وأكمل دراسته الاعدادية في
أعدادية كركوك. في جامعة السليمانية أكمل دراسته الجامعية عام 1979 وحصل على شهادة
بكالوريوس زراعة / قسم التربة ومن ثم التحق في الخدمة العسكرية الاجبارية.
بدأ (عاصف) حياته السياسية منذ نعومة أضافره وذلك لنشوئه في بيت سياسي حيث
اعتقل والده المرحوم عدة مرات من قبل النظام العراقي السابق لأسباب سياسية، كما
واجه العديد من المشاكل والصعوبات واعتقل عدة مرات من قبل الامن في كركوك في
المرحلة المتوسطة والاعدادية. في عام 1987 اضطر هو وعائلته الى ترك الوطن والتوجه
الى ديار الغربة الى أن أستقرت بهم سفينة الغربة في كندا.
شغل عاصف سرت توركمان العديد من المناصب والوظائف وقد عين كموظف رسمي من
جنيف في المفوضية العليا للاجئين في العاصمة التركية أنقرة عام 1987-1989. انتقل
الى كندا وعمل مهندساً في أحدى الشركات الكندية ومن ثم في دائرة الهجرة الكندية.
عام 2003 بعد سقوط النظام السابق، انتخب مباشرة من قبل اللجنة التنفيذية للجبهة
التركمانية العراقية ليشغل منصب ممثل الجبهة في بريطانيا. حالياً يشغل منصب مثل للجبهة التركمانية العراقية في
بريطانيا وأمريكا الشمالية.
أسس (عاصف) أول جمعية تركمانية في كندا عام 1990 سميت بـ (جمعية التركمان
في كندا) ومن ثم غير اسمها الى (المركز التركماني الكندي) والذي كان رئيساً لها
الى عام 2003. أصدر هو والمرحوم
والده أول مجلة في أمريكا الشمالية (مجلة التركمان) التي صدرت في ثلاث لغات (العربية والتركية
والانكليزية).
هنا يسجل بعضاً من ذكريات حياته الاولى في مدينته كركوك:
كانت (مدينة
تسعين) واحدة من أكبر الاحياء الشعبية وأعرقها في كركوك. وهي المدرسة التي درست العلوم الدينية والاخلاق
النبيلة لـ (الشيعة التركمان) الذين قدموا فلذات أكبادهم من أجل اٍعلاء كلمة الحق.
لقد قام النظام السابق بتهديم هذه المدينة لأسباب سياسية وطائفية، بعد أن قتل
الكثير من أبنائها وهجر منها التركمان بعد مصادرة ممتلكاتهم وأراضيهم الزراعية.
قدمت هذه المدينة الآمنة أكثر من 600
شهيد، ويتّم المئات من الاطفال. لم يبقى أي من بيوتات التركمان في تسعين
الاّ وفيه شهيد أومفقود. ويبست ترعة (دهنه صويو) التي كانت تروي بساتينها الخضراء
وهجرت البلابل التي كانت تلعب على أشجار النخيل في مزرعة (أفندي باغي). حتى الطيور
المهاجرة التي أعتادت أن تعشش فوق حسينية (مريم رؤوف) ودعت المدينة في 1987م وكأنها عرفت أنها ستكون السنة الاخيرة لها
في تسعين. هكذا عاش التركمان في (تسعين) في فزع وخوف بعد أن عشعشت الغربان فيها.
تعود بي
الذاكرة الى سنة 1977م في (حسينة
مريم رؤوف) عندما اعتلا المنبر شاب طويل ونحيف وبوجه مشرق بدأ في اٍلقاء محاضرته
الدينية، حيث تجمع المئات ليستمعوا الى ما يقول وكان هذا آخر خطاب له في مدينته
التي ولد وترعرع فيها، انه الشهيد (عباس فاضل صادق)، الذي أعدمه النظام في مدينة
النجف، وبعده كذلك اخوته، بتهمة الانتماء الى (حزب الدعوة).
اتذكر شهر
محرم وما فيه من قدسية وتضحية وتاريخ، حيث كنا نتوجه أطفالاً مع ذوينا إلى
الحسينيات التي كانت بمثابة المدارس العلمية التي تدرس فيها كافة العلوم الدينية
والدنيوية. لقد كانت (تسعين) مركزا للمواكب الحسينية يتوافد إليها الناس من كل
صوب، وكانت تستقبل أفواج الجنود الذين يتوافدون اليها وهم يرددون اللطميات
الحسينية وكأنهم جاءوا لنجدة الحسين(ع) ولنجدة أهل تسعين يوم عاشوراء حيث اعتبرت
معظم ليالي تسعين عاشوراء التركمان لما تعرضوا الى الظلم والاضطهاد من قبل النظام
السابق .
وفي يوم من
الأيام في أواسط سبعينات القرن الماضي، عندما كنا نلعب في مزارع(تسعين) هبت عاصفة
هوجاء وغطت السماء غمامة سوداء. كنّا وقوفاً حينها أمام حسينية (مريم رؤوف) وإذا
بسيارة محملة بغربان النظام وقفت أمام الحسينية وبدأت أياديهم تؤشر نحونا وتهتف
بهتافات (تسعين قلعة للبعث موتوا يا رجعية)... وبدأ كل واحد ينظر إلى الآخر
ويتساءل، يا ترى من وما المقصود ؟ ولماذا يهتف هؤلاء وهم ينظرون الينا ؟ وإذا بأحد
كبار السن يتوجه إلينا وينصحنا بعدم الرد وبعدم الانفعال. بعدها بدأت الحملة
الفعلية الأولى ضد هذه المدينة الآمنة عندما شوهدت الشاحنات المكشوفة تقل العوائل
التركمانية إلى المصير المجهول. وكانت هذه الشاحنات متمركزة أمام مركز شرطة تسعين
في يوم قارص من أيام شهر شباط ، واقتربنا منها لننظر عن كثب ولنتعرف على هوية
ركابها وإذا بالأطفال والنساء والشيوخ من منطقتنا والكل يرجف من الخوف والبرد
وزخات المطر قد بللت أجسامهم، واٍذا بأمهات أصدقائنا يبكين. لم نستطع معرفة السبب
إلاّ من الشرطي الواقف أمام مركز الشرطة والذي أجابنا وبكل شدة: (أن هؤلاء ليسوا
بعراقيين وأنهم من أصول ايرانية ويجب طردهم الى ايران)! واستغربنا كثيراً من كلام
الشرطي لأن هؤلاء ألاشخاص نعرفهم حق المعرفة لأن آبائهم وأجدادهم قد ولدوا في هذا
الوطن وفي تسعين القديمة. وما هذه الادعاءات الباطلة؟ بدأت أصوات النساء والأطفال
ترتفع عندما تحركت الشاحنة وبدأنا نركض معهم وأيادي أصدقائنا تلوح لنا وتودعنا وفي
وجوههم نظرات أمل الرجوع ويقولون انتظرونا، سنرجع يوماً ما إنشاء الله... وسنرجع
إلى الأرض التي ولدنا فيها والى كركوك التركمانية ديار آبائنا وأجدادنا... سنرجع
يوما غانمين ظافرين وحاملين معنا الراية الزرقاء وراية الحسين(ع) ومشاعل النصر
المضيئة، ولا تنسوا زيارة قبور موتانا، ولا تنسوننا من دعواتكم .
سيقت قوافل
المرحلين التي تقل التركمان من (تسعين) و(بشير) و(تازة خورماتو) و(داقوق) و(إمام
زين العابدين) و(طوز خورماتو) الى منفاها. ولم تسلم المناطق التركمانية الاخرى مثل (كفري)
و(خانقين) و(مندلي) من هذه العمليات، وسيق آلاف التركمان الى الحدود العراقية -
الإيرانية وتركوا في العراء بعد أن تعرضوا للشتم والضرب وأهينت كرامتهم، وقيل لهم
اذهبوا إلى بلادكم إيران !!
كانت هذه
بداية سياسة ترحيل (التركمان) من (كركوك) وقراها وضواحيها تبعتها سياسة هدم القرى
والأرياف التركمانية في كركوك حيث هدمت عشرات القرى وتفرق أهلها واجبروا على
الرحيل . وبقيت ذاكرة العوائل المرحلة من (تسعين) في قلوب الجميع ولكن العواصف لم
تهدأ فاذا برجال الأمن قد توغلوا في (تسعين) من جديد ومعهم قوائم الأسماء لتغتال
خيرة شبابها. لقد قدمت (تسعين) مئات الشهداء وأجبرت عوائلهم على الرحيل، وهدمت مئات البيوت بحجة
توسيع الشوارع واٍنشاء محطة القطار كما تم اٍخلاء مئات البيوت وأعلن فيما بعد عن
عدم صلاحية الشريط الواقع بين المشروعين للسكن وبحجة الخوف على سلامة المواطنين،
ولكن عن أي سلامة يتحدثون؟ وهل تتحقق السلامة باغتيال أولادها؟ وسقطت المآذن التي
كانت تحمل تاريخ المدينة ودمرت تسعين التي ناصرت سيد الشهداء الحسين(ع). ولكن رغم
عمليات ترحيل التركمان القسرية من
كركوك العراقية فأنها لم تفقد خصوصيتها التركمانية فهناك مئات آلالاف من
التركمان ينتظرون الرجوع إلى مدينتهم حيث يقدر أعداد التركمان المرحلين من كركوك
والقرى والضواحي التابعة لها بأكثر من 500 ألف تركماني تم تثبيت أسمائهم وحسب
إحصاءات سنة 1957م المعترفة بها من قبل الجمهورية العراقية .
تعرض التركمان
بعد
سقوط النظام السابق في التاسع من نيسان 2003م الى نمط جديد
من الظلم والاضطهاد، وواجهوا الكثير من الاجحاف والتهميش بحقوقهم المشروعة في المحافل السياسية والادارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية
والعسكرية ابتداء من تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، رغم مواقفهم الوطنية المشرفة والتضحيات التي قدموها من
أجل الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً. وواجه التركمان نفس الاسلوب
من التعامل في فترة الحكومات العراقية التي تشكلت بعد سقوط النظام السابق. وفي
العاشر من نيسان 2003م أحرقت دوائر الطابو والنفوس والتسجيل العقاري في كركوك من قبل الميليشيات
الكردية لغرض مسح
الهوية التركمانية من خلال اتلاف الاوراق والبيانات الرسمية وخاصة بيانات الطابو
والعقارات التي تؤكد الخصوصية التركمانية لهذه المدينة. بالاضافة الى
تدمير واٍحراق جميع المؤسسات الحكومية والبنى التحتية.