جماعة كركوك
كركوك في ذكريات الراحل جليل القيسي
المبدع الراحل جليل القيسي
نعيد الجزء
المتلعق بكركوك، من الحوار الذي اجري مع احد كبار الادب العراقي وجماعة كركوك
المعروفة، قبل وفاته في تموز 2006:
اجل
، انا ابن كركوك. ولدت و كبرت، و عملت، وبصبر رواقي سقراطي كتبت في هذه المدينة
الناعسة الناعمة. لا يستطيع ان يفهم هذه المدينة الرائعة الا الكركوكي الحقيقي،
لأن المدينة مثل آلة كمان الغريب عنها يمتلك العزف على وتر واحد فيها حسب، بينما
الابن الحقيقي لها يعزف تلقائية على اوتارها كلها و يخرج لحناً هارمونياً جميلاً…
جماعة كركوك.. هذه الجماعة التي ستبقى تاريخاً في دنيا ادب هذه المدينة لردح طويل
من الزمن.. لم لا؟ وقد اعطوها الكثير .. ان الزمن يا عزيزي نوزاد هو الذي يوجد
الانسان، لكن الانسان هو الذي يعطي الزمن قيمة.. و قد اعطينا هذه المدينة التي شاء
القدر ان نرى النور فيها و ندفن في ترابها سرتنا القيمة. سنة 1959 التقيت بأخي و
حبيبي فاضل العزاوي.. اه، يالنور ذاكرتي الذي بدأ يضعف هذه الايام بحكم الزمن وعلى
نحو دراماتيكي.. كان فاضل مليئاً بحماسة حارة، وثمة قوى وضاءة في روحه و مخيلته، و
لديه احلام كثيرة، و اصرار على العيش على خبز و ماء الارادة.. انه مثل امير شعراء
الكرد شيركو بيكةس عندما يقرأ الشعر تشعر كما لو انه ميرابو حقيقي يلقي خطابا
نارياً.. و بعيدا عن الشعر، كان يجلس بوقار كهنوتي، و يستمع الى الاخرين، و هو
للمناسبة مستمع جيد، و تؤثر فيه الكلمات المضيئة بقوة.. كان كشاعر يبحث عن سماء من
اروع الكلمات.. انه احد الموهوبين النادرين من جماعة كركوك.
ثم التقيت بمؤيد الراوي، و هو طراز غريب من العناد، و الاصرار، و اللامبالاة،
والعبث، يريد ان يستحوذ على كل شيئ. كان وكأنه حصل على جواز الاقامة في الوجود
بتضحية سيزيفية.. في داخله منبع رهيب و خطر من الاضطرابات. رأيته اكثر من مرة
لمجرد العناد يطفئ سيجارته في باطن يده بصمت فانكوخي.. كان من الصعب عليه ان
يتلاءم مع الاخرين و لا حتى مع الحياة.. لم يفكر ولو لحظة واحدة بالشهرة، ورغم
موهبته الجيدة التي حرقها عبثا كان لا يعير كبير اهتمام للعمل الابداعي..
كان يؤمن بالفن لكن ايمانه كان خالياً من الامل. كان محاورا جيدا، و صعباً، وفي
الازمات واحتدام النقاش يعرف كيف يمضمض فمه بعدة كلمات بركانية وساحرة ويجعل الاخرين
ان يستمعوا له بهدوء.. كان ستاليني الصلابة. اذكر عندما اعادوه الى الغرفة التي
كنا فيها سوية في السجن و كان ظهره مدمياً من ضرب الكيبلات و كان وهذه شهادة
للحقيقة، كان يغني.. كان كل العذابات تبدو له تافهة.. تنطبق على مؤيد هذه الكلمات
للشاعر البرتغالي ريكاردو ريينس (مازلت على قيد الحياة/ غير مكترث بأحد. انا من
يجبر الجميع على الصمت/انا الذي يتكلم).
قال لي ذات يوم: جليل اريد ان اعرفك على شاب اشوري وسيم طيب و موهوب يكتب الشعر
يدعى سركون بولص.. تعال مساءً لزيارتي. في المساء قدمني الى شاب وسيم كثير الشبه
بالممثل الامريكي الراحل غريغوري بك. كان رغم لكنته الاشورية يتكلم العربية بطلاقة
و يستعمل مفردات غريبة على سمعي.. كان مليئا بالحب و مستعدا ان يموت لكي يبقى
بثبات الى جانب عشاق الحياة. كانت عصارات شبيهة بنوبة حمى تجري بصخب في عروقه..
كان شديد الثقة بنفسه وبالحياة. كانت يداه تتكلمان بنفس وضوح لسانه، يعبر بهما عن
قدرة ايحائية تبلغ حد الهذيان.. اما حماسته للشعر تصل حد الهوس الصوفي، عندما
يتكلم عن الشعراء ييتس، باوند، اليوت، اودن، بودلير، د.هـ. لورنس، يتكلم بكلمات
نارية تضرب القلب بضرب نادر من الاغواء.. كان هو الاخر يلتذ بالألم و يقول عنه انه
مبارك سيما تلك الالام التي تمنح الهزات.. وامام الافكار التافهة، و النقاشات
الامبيقية كانت تظهر غضبه متوثبة في حاجبيه و يغادر المكان.. كان سركون يمتلك
روحاً متنامية، فياضة بالحماس، والقوة، والارادة..
اما جان دمو، الذي كتبت مقالة عنه في جريدة (بهرا) بعد وفاته، كان اخر من استطاع
الشفاء من كآبته. كان لاشك موهوباً، لكن لاأبالياً، عبثياً، لاادرياً، سكيراً
اشراً، بوهيمياً لم يستطع الاستفادة من نعمة موهبته، و لا من غنى سهول روحه اللا
متناهية، ولان خياله الذي فعلاً كان احيانا بلا ضفاف.. عشت معه اكثر من عقدين،
عبثا حاولت ان اضعه في الطريق الصحيح لموهبته. رحل، و ترك بعد اكثر من ثلاثة عقود
في دنيا الادب اسماله، كما لو تكهن انها فعلا اسمالاً حقيقية.
و دخل انور الغساني الشلة. شاب هادئ، رصين، عملي وبرغماتي حقيقي في دنيا العمل. لم
ار من هو اكثر صبراً في التعامل مع القضايا الفكرية. كتب عدة قصص جميلة، و كان
بالامكان ان يصبح قاصاً رائعاً لولا مغادرته الوطن. كان مقلاً و من المؤمنين بان
النفتالين الوحيد الذي بوسعه ان يحفظ كتابات الكاتب من عث الزمن، هو، قوة
الموهبة.. و كان دائماً يقول الحقيقة بأسلوب مثالي. لم اسمعه يتحذلق و لم يعرض
للمهاترات.. كان مولعاً برواية الحقيقة..
و تعرفت على الراحل و الطيب الذكر جدا يوسف الحيدري في نفس الفترة. زارني في دكان
شقيقي الصائع الذي حكم عليه عام 1963 بخمس عشرة سنة لاسباب سياسية و اضطررت ان
ادير امور المحل بنفسي، جاء يحمل بيده رواية لنجيب محفوظ.. قدم نفسه لي. اخذت يده
بحرارة. ويوسف من النوع الذي يرفع الكلفة بعد عشر دقائق.. تكلم بهدوء و تناغم شهي
عن قراءاته، وكتاباته.. استمر يزورني في الدكان. كان يوسف يمتلك روحاً مرحة، يتكلم
بطلاقة ويطلق فرحاً فاضحة، ودعابات غزل معربدة.. يوسف انسان سلس العياده: مرحاً،
عاطفياً جدا، وشهوياً. كانت عاطفيته الحارة تطغى على كتاباته و تفسدها احياناً..
لقد رددت عليه مرات عديدة نصيحة الروائي الفرنسي اندريه جيد (بالعاطفة الجيدة نصنع
ادباً رديئاً) كان عناده الجاف احياناً، واصراره على رعي قطيع افكاره غير الدقيقة
واحدة من سلبياته.. ورغم طيبته الشديدة، و روحه المرحة، ورصانته كان احياناً
عنيفاً متطرفاً. كان يوسف واحداً من اطيب جماعتنا غادرنا مبكراً وقد كتبت عنه رثاء
حار في جريدة الثورة. لقد تحمل الم الحياة الجميل بفروسية.. كان جان و كذلك مؤيد
متحررين بطريقة غريبة و لا ابالية من عبودية الابتذال العائلي. كانا متحررين تحررا
مطلقاً من الانشغال بشؤون الحياة اليومية و المادية، بينما كان يوسف اباً رائعاً و
عاشقاً لأسرته. واخيراً جاء صلاح فائق بعد فترة قصيرة قبل ان نفترق ايدي سبأ – كنا
جميعاً باستثناء صلاح. و يوسف نجيد اللغة الانكليزية، ونقرأ الروايات ونتابع الادب
الحديث الذي اثر كثيراً في كتاباتنا، و بدأنا نكتب الشعر، و القصة، و المسرح
بطريقة جديدة لفت انتباه الوسط الادبي في بغداد، و راحوا يقولون عنا (هؤلاء يكتبون
مثل الانكليز.. كتاباتهم غريبة، معقدة، وجديدة..) هؤلاء هم يا عزيزي نوزاد جماعة
كركوك… اما بخصوص مذكراتي، اعتقد سأضع برنامجاً اذا توفرت لدي الامكانات وانهمك
بكتابتها..
لقد احببت،
ومازلت، وسأبقى احب بهوس مدينة كركوك. احب كرده، تركمانه، اثوريوه، ارمنه،
وصائبته.. عندما تعشق مدينتك عشقاً حقيقياً تفرق بسرعة آهه فيها عن آهه اخرى. ان
زفرة حب مدينة كركوك تكون مثل النار.. كركوك مدينة سيمفونية من اللغات.. لقد كنت
دائماً رومانسياً في تعاملي مع هذه المدينة، والرومانسي يكون ازدواجياً في ذاته
حيث ينقسم الواقع بالنسبة له الى عالم مادي Material وروحاني Spiritual.. فحبي الروحي هو الذي
اشعل عندي الحرية، والجمال، والسعادة وحب الاخرين. صدقني كركوك قصيدة ضوئية، لديها
دائماً القدرة على ان تنشر عبيراً روحياً، احتفالياً، ديونيزياً، وتحرض على
التوهج. وبسبب غناها الكبير اقامت ومازالت للاخرين ولائم طوطمية.. فهل بعد هذا
الحب لا تريدني ان اكتب عنها وعن ادق تفاصيلها. هذه المدينة التي عملت اربعين سنة
من الكتابة لأجلها ولم تمنحني لحد الان أي شيء بالمقابل.. اه، بطلات قصصي التي
ذكرتها.. نعم يمتلكن روح نسر، ذاك النسر الذي وصفه اندريه جيد و قال عنه بأنه
ضروري للحياة الروحية والشعرية. ان هاتيك النساء الجميلات، الرقيقات، الكيسات،
والعاشقات بحق شخصيات رائعة فتية.
للقلب يا عزيزي نوزاد مبررات يجهلها العقل.. انني منذ صغري احببت كركوك و بقلبي
بالفطره عرفت شرائع هذه المدينة.. و لأن العقل مطواع قابل الميل الى كل اتجاه،
لذلك يدفعه كل شيئ الى الخطأ.. اما قلبي مع كركوك فلم ولن يخطئ معي.. انا وكركوك
(كحبتين من قشرة لوزة).. المجد لكركوك ولكل قومياته، واطيافه.
افتخر انني من اب عربي وام كردية من عشيرة زنكنة.. كانت والدتي
انزه قلب عرفته في حياتي و اصلب من عرفت في المواقف الصعبة. كانت لها ارادة صلبة
لا تفتر ابدا.. اما والدي، فكان هادئاً، طيباً، وديعاً، مسالماً نزوع الى
الانزواء، وحب الوحدة، والتأمل.. كنت حتى الثامنة من عمري لا اعرف سوى اللغة
الكردية. وتعلمت التركمانية في الحارة التي عشت فيها و تعرفت في حياتي الدراسية
على عدد كبير من التركمان الرائعين، ومازلت على صداقة حارة مع العديد من المبدعين
منهم مثل قحطان الهرمزي، فخري جلال، عبد الرزاق شيخلر زاده، شكر البياتي.. انت
تعرف ان زوجتي ارمنية وفي حارتنا القديمة كانت ثمة العديد من الاسر الارمنية..
ارجو لمدينتي(كركوك) الامن/ السعادة/ التعاون بروح فروسية بين الجميع لأجل
الجميع/ العدل الحقيقي في كل شيء/ الاتحاد..
ــــــــــــــــــــــــــ
لقد تم ترتيب
هذه الذكريات من حوار مطول بين جليل القيسي ونوزاد احمد اسود.