جماعة
كركوك
رحلة في ذاكرة
التاريخ
يعتبر هذا الاب المسيحي، احد الذين رعوا ثقافيا ومادياً (جماعة كركوك)
عندما كاني راعيا لاحدى كنائسها. هو من مواليد عام 1936 في الموصل تلقى تعليمه وعلومه في
المدارس الكنسية في أديرة الموصل . وجاء إلى كركوك لرعاية الكنسية الواقعة على
طريق المحطة من الممر الثاني الذي يؤدي إلى ساحت العمال . كان الأب سعيد يهوى فرض
الشعر وكان من أبرز أعضاء جماعة كركوك الفقيدة في أول قيامها بالعطاء كانت للأب
أولى نتاجاته الأدبية وباكورتها (1) ( المجزرة الأولى ) التي طبعت عام / 1958 (2)
مجموعته الشعرية طبع بيروت / عام 1968 تحت عنوان / الموت واللغة (3) ( ويأتي صاحب
الزمان ) عام 1968 (4) ( الشعر الآتي ) عام / 1986 (4) ( طبعة ثانية للتاريخ ) عام
/ 1997 (5) ( الشموع ذات الأشتعال المتأخر ) عام / 1988 (6) ( مملكة القصيدة ) عام
1988 (7) ( حضور الأبداع ) عام / 1989 . هذا وقد هاجر إلى السويد بعد أن ضاق به
المقام في الوطن وقد عاد إلى بغداد عام 1968 بدعوة من وزارة الثقافة للمشاركة في
مهرجان المربد الشعري الذي أنعقد في بغداد في نفس العام . واللأب العديد من
المقالات في الأدب والنقد الأدبي موزعة على الصحف العراقية والعربية ...الخ
هذا نص يعبر فيه عن شوقه الى كركوك:
تنزف الذاكرة خيالات رقيقة من أشواق الحسرة، الخيّرة على طرس محموم بحرارة
ودفء الحقيقة .. الزمن واحد من متممات نبضات ذبذبات الروح الكلية، فوق أديم مدينة
كركوك، المعِّطرة برحيق ريحان شذاها، وثنائها على قلمه السياق النابض بدفقات
الحقيقة التاريخية، النازفة على شفرتي يراعته، حقائق هي أشبه بنبضات مدينة نجلها
ونحبها، ونحبك أصابعنا على خاصرتيها بحب. ولكم أقمنا قداديسنا في كنائسها القديمة
لا سيما على مذابح كنيستها الحمراء، وسميت بالحمراء لأن تربتها متبلِّة بدمٍ من
عصارات معاصر شهدائها الأبرار، وكنت قد كتبت مقالة في جريدتها " كاورباغي
" عن حقبها المعبقة بدماء شهدائها من مسلمين ومسيحيين.
كركوك وبالسريانية " كرخ سلوخ" مدينة الحضارات في حضارة واحدة،
وكيف تحولت من السريانية حرف الخاء إلى قاف " سلوق" وكركوك عبارة عن
عصاراتٍ لدهورٍ متلاحقة متعالية على شهقات أديمها الصافي المشرقة الشفاه، تبقى
صباحاتها كصفاء ونقاء مرآة لعروس ٍ كاعب ٍ، تحتفظ بصورة وجهها.
عشت ُ فيها من عام 1955، حتى نهايات عام 1971 ، ثم رحلت عنها إلى بيروت،
بحثاً عن اقتناص كلمات جديدة، لقصيدة تكتب على خدها الأسيل.
وبينما انا ممتطياً أجنحة أحلامي الوردية السالفة، أعود ثانية إلى مدينة،
استنشقنا هواءها واترعنا نسيمها، وعطر ريحانها، فتعود بنا الذاكرة إلى مدينة كركوك
الحالمة بتمردها، وعنفوان ذاكرتها، وأقولها على رؤوس الأشهاد، لم تكن كركوك إلا
عاصمة المحبة، وشوارعها مسرحاً لمتكئات الشعراء والكتاب، وكانت الأحلى والأجمل بين
مدن العراق السخية. تنام باكراً في أماسيها الحالمة، تسدل بسدائلها على إغفاءات
عشاءاتها الباكرة، وتخلد إلى الراحة والتأمل، والدخول إلى محجة الروح، وذاكرتها
مجبولة بعطاءاتها الوردية اللون، وكنا في صباحاتها نستنشق عطور رائحة وورود
الزيتون في غابات الزيتون في " تسعين " وخواصر ليلها الرقيق، مدماة
بتلويحات في أفق نارها الأزلية القانية اللون، وكانت عذارى المجوس يأتين إلى
أحيائها وهن مزنرات بزرقة أشبه بعيون السجناء. وكانت أخاديد محلاتها، كمحلة "
تبة ملا عبدالله "، وطريق المحطة،" وصاري كهية" مسورة بأشواكها
القرمزية، وكنت في دكنة الليل البهيم، أصغي، وأنا على سريري في الدار التي تجاور
كنيستنا ـ كنت رئيساً روحياً فيها ـ أصغي كلياً، وبكل جوارحي، وأنا على سطح
الكنيسة، إلى تراتيل "المولدين " وكانوا يسمونها " مولود "،
يجوب غناء المولدين العاطفي إلى دراويش العبادة من الصوفيين وبمكبرات الصوت،
وكأنني قريب من مجالسهم، وكأنني كنت ألتهم من أشواقهم الصوفية النقية كنقاء
صباحاتها " والمحية " كانت سواراً من دملج ذهب الإبريز على معصميها، وكنت
قد مقالة عن كتاب عنها، وأن لم تخني الذاكرة، كان محامياً تركمانياً أسمه "
عطا رفعت" ، وقد ألف كتاباً عن هذه المقامات" قوريات/ خوريات " .
وكركوك مدينة عراقية الجذر مطعمة بالكرد والعرب والتركمان والسريان من
الكلدان والآشوريين . وكانت المنافسة الفكرية والتجارية، والعمل لحمة بين أهاليها
بجميع طوائفهم، ومرة واحدة في تاريخهم المعاصر، كدرتهم السياسة، ففرقت بينهم، ثم
عادوا ثانية إلى تجديد لحمة المحبة كعروس كاعب.
أجد بين أصابع يديي حبات من سبحة المحبة، وحباتها من الشيح الغالي الثمين،
ومطعمة بفسفوريات انعكاسات الشمس وحرارتها المتدفقة من روحها. ما ينعش قلب
المطالع، فعلاً أعدت لنا بجدارة متناهية أيامنا في كركوك وذكرياتها المبجلة،
المدينة التي دعوتها في يوم ما، المدينة الضاحكة بالنور والنار.