تتصاعد في هذه الأيام
مطالبات قادة الكرد القوميين بتطبيق المادة 140 من الدستور والتي يراد منها ضم
كركوك إلى إقليم كردستان. وقد هدد مسعود البازاني بتفجير الحرب الأهلية في العراق
إذا لم يتحقق ذلك! وهو تصريح لا يصدر إلاّ في ذروة التطاحن بين دولتين عدوتين!
وبغض النظرعن كون هذه المادة قد أقحمت على
الدستور في ابتزاز ومساومات (إذ المعروف أن الدساتير تنطوي على مبادئ عامة وتعالج
حالات أساسية جوهرية شاملة وغير محدودة أو عابرة) إلا أنها قد أضحت من أخطر جوانب
هذا الدستور الذي جاء بمجمله مخلخلاً وحاملاً لمتناقضات ومعضلات!
يطالب قادة
الكرد الحاليون بإجراء استفتاء عاجل في كركوك ضمنوا نتائجه مقدماً بما صنعوا له
على الأرض من ترتيبات سكانية ووثائقية مما يجعله أشبه بالضم القسري الذي اتبعه
قادة الكرد في سيطرتهم التدريجية
على منطقة شمال العراق التي كانت في معظمها آهلة بالآشورين والكلدان والأرمن
والتركمان وغيرهم من الأقوام وكما يقول تاريخ المنطقة لآلاف السنين!
انهم يمارسون ضغوطهم في هذا الاتجاه بلجاجة
تتصاعد كلما ازداد نزف العراق من أرواح أبنائه ودمائهم مستغلين ضعفه وتدهور أوضاعه
السياسية والأمنية وتصارع قواه وأحزابه السياسية على السلطة والثروة واستعداد
بعضهم للدخول في مساومات مدمرة ومهينة من أجل ذلك!
إن أكثر فقهاء
القانون الدستوري يحذرون من مغبة الاستفتاءات الموضعية والمحلية في تقرير مصير
الأرض والبلدات المتنازع عليها فهي كما يقولون لا تعبر عن الجوهر الحقيقي للجوانب
القانونية والإنسانية لهكذا قضايا معقدة، كما أنها تتشكل في جو نفسي خاضع للقوة
والمال ويغيب فيه تأثير الأطراف الضعيفة والمحاصرة! لذلك فهم لا يقرون حقوقياً سوى
الاستفتاءات الوطنية العامة التي تمكن كل مواطن في البلاد من ممارسة حقه في هكذا
قضايا قبولاً أو رفضاً!
ويوردون جملة
حقائق وعوامل واعتبارات يمكن تلخيصها: بأن ملكية المدن والمقاطعات الطبيعية
والإدارية الكبرى لا يمكن أن تعود لمجموعة بشرية دون أخرى داخل الوطن الواحد. فهي
ملكية عامة وطنية على الدوام. وفي حالة كركوك، هل يستطيع قادة الكرد أن يبرزوا سند
ملكية سابق يثبت أن كركوك كانت مسجلة باسم الكرد دون غيرهم وقد انتزعت منهم؟
إن سندات
ملكية الأفراد تثبت ملكيات خاصة تقتضي حماية القانون، وفي حالة انتزاعها يجب
إعادتها كاملة مع كافة التعويضات الأخرى. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن رقبة
الأرض قد أضحت ملكاً لانتمائهم القومي أو الديني أو الطائفي أو السياسي!
ويمضى فقهاء القانون للقول أن كل مواطن كان قد أدى أو مستعداً لأن يؤدي
كما أسلافه واجبه في الدفاع عن كل بقعة من وطنه بما فيها الأرض أو البلدة المتنازع
عليها، ووجود أية بقعة ضمن أرض الوطن هو مدفوع الثمن بدماء أبناء الوطن جميعاً.
كما إن تعرض أية بقعة من الوطن لمجاعة أو وباء أو فيضان أو أية كارثة أخرى يدعو
جميع أبناء الوطن لتحمل مسؤولياتهم لدرء هذه الأخطار والعمل على إنقاذ الأرض أو
البلدة المتضررة.
إن هذه وغيرها من عوامل التكافل والتضامن
الوطني تجعل لكل مواطن الحق في أية بقعة من وطنه، كما له الحق في بلدته أو محلته.
فكيف يستدعى المواطن لتحمل واجبه في الدفاع عن حدود العراق أو أرض كركوك ولا يكون له الحق في ممارسة
حقه بإبداء رأيه في تقرير مصيرها؟ وقادة الكرد أنفسهم نادوا شعب العراق قبل أيام
لكي يهب للدفاع عن الأرض التي يحكمونها ضد الاجتياح التركي المحتمل! ترى كيف يقع
على هؤلاء واجب الدفاع عن المنطقة الشمالية ولا يكون لهم حق في الاستفتاء حول
إلحاق هذه البلدة أو تلك منها بهذا المركز أو ذاك؟
هذا ما يقف عنده
فقهاء القانون بمبدئية صلبة ويحذرون بقوة من استفتاءات تشبه الاغتيالات للأرض
وناسها وتاريخهم وتراثهم حين يضحى بها على مذبح الأطماع القومية! إن الوطن في نظر
هؤلاء ليس مصرفاً تجارياً يمكن لزبائنه أن يسحبوا ودائعهم فيه أو يناقلونها كيف
يشاءون. إنه قارب كبير مبحر على مر العصور لذا فإن أي تغيير يحدثه فيه أحد ركابه
قد يؤذي الجميع ويعرضهم للغرق!
لقد أثيرت هذه المبادئ العامة في نقاشات
حامية في كندا عند التصويت على مصير مقاطعة كوبيك الناطقة بالفرنسية حيث طرح
انفصالها على التصويت مرتين، الأولى عام 1980 وقد هزم بها الانفصاليون بفارق كبير،
والثانية في عام 1995 وقد هزم بها الانفصاليون بفارق ضئيل، ولكن المحكمة الدستورية
العليا في كندا كانت على استعداد لإلغاء نتائج التصويت الانفصالي استناداً إلى
المبدأ القانوني القائل أن التصويت المحلي لا يجسد الحق الإنساني لمواطني البلاد
جميعاً ولا يضمن جوهر العدالة المنشود.
إن جعل تقرير
مصير الأرض والمدن بيد أبناء الوطن جميعاً هو الذي يقطع الطريق على من قد يطلق
الدعاوى في انضمام هذه المحافظة أو تلك، لهذه الدولة أو تلك، عبر استفتاءات محلية
موضعية وهو الذي يمنع هذه الدولة أو تلك، وهذه الجهة أو تلك من التأثير على
المناطق الحدودية بالمال أو بالقوة أو التأثير المذهبي والطائفي من دفعها للانضمام
إليها!!!!
إن أجراء
استفتاء محلي أو موضعي في كركوك سيشكل سابقة خطيرة في العراق تؤدي إلى قضمه وإذابته كسطح الجليد تحت
لهاث الطامعين به من مختلف الاتجاهات!
ومن المؤسف أن
قادة الكرد تصدهم الآن مصالحهم الضيقة، وقوتهم المفاجئة التي قد لا تدوم عن رؤية
الحقائق الموضوعية، أومراعاة مصالح العراق ككل! إنهم يرمون أيضاً إلى استعمال هذه
السابقة القانونية لومرت في ضم أجزاء هائلة من الموصل وديالي وتكريت وجوانب بغداد
والكوت نزولاً إلى المنفذ البحري على البصرة كما هو مرسوم في خارطة كردستان الكبرى
والمعلقة في مكاتب قادة الكرد الحاليين الحزبيين والحكوميين وحتى بعض السفارات
العراقية التي سفراؤها كرد!
ومن الواضح
وفق الدستور على علاته أن المادة 140 قد سقطت مع سقفها الزمني، ولكن إذا أصر قادة
الكرد على إحيائها فينبغي أن لا يوافق البرلمان العراقي على ذلك إلا بعد إعادة
صياغتها ليكون الاستفتاء على مصير كركوك من قبل جميع العراقيين، وأن يراعي فيه ما
تتمتع به كركوك من ميزات وطنية وإنسانية خاصة وغاية في الأهمية حيث هي وطن
التركمان والكرد والآشوريين والكلدان والعرب ومن معهم. لذا ينبغي أن يكون السؤال
الذي يوجه للمواطن العراقي عند الاستفتاء (هل تريد أن تبقى كركوك مدينة عراقية
يسكنها التركمان والكرد والعرب والآشوريون والكلدان؟ أم أن تكون كردية فقط؟)
وليس(كردستانية) كما قد يطرح قادة الكرد، إذ هذه تسمية فضفاضة تعني لدى القادة
الكرد سلطتهم الإقليمية!
لذا فإن الحكومة العراقية والبرلمان
العراقي مدعوان للوقوف بحزم وقوة وشجاعة بوجه أي ابتزاز أو مساومات في هذه القضية
الجوهرية التي ستشكل معياراً عاماً لمستقبل أرض العراق، كما إن على قوى المعارضة
وكل القوى الوطنية أن تنسى خلافاتها وتبلور موقفاً وطنياً عراقياً واحداً يبقي على
كركوك مدينة لكل العراقيين، متمتعة بقوس قزح خاص مشع طالما بقيت سماء العراق،
امتثالاً لروح القانون والحق، ومن أجل العراق وأرضه التي اقتطع منها الكثير ظلماً وعدواناً، ومن
أجل سكان كركوك الذي سيفقدون
سكينتهم ووجودهم وروح مدينتهم وأصالتهم، إذا قدر لمدينتهم الجميلة أن تقع خلافاً
للحق والعدل تحت سطوة قوة قومية واحدة.