جذور
علاء اللامي/ جنيف
(هذا جزء من دراسة أكبر
مع المفكر الراحل هادي العلوي)
أطلق اسم طائفة على بعض الفرق الإسلامية
في عصر متأخر ليكرس تحول الفرقة إلى جماعة دينية خالصة بعد أن تكون قد انسحبت من
ساحة العمل السياسي أو الثقافي الذي يقع في أصل تسمية فرقة. وشملت التسمية الجديدة
أهل السنة والشيعة بفروعها الإسماعيلي والإثني عشري والزيدي والدرزي. كما انسحبت
التسمية على الفئات المسيحية المختلفة في الوقت الحاضر.
وقبل أن نخوض في حيثيات التناحر الطائفي في العراق نرجع إلى جذوره
التاريخية حتى يكون البحث متصلاً وفق التسلسل الديالكتيكي المتورخ.
الدور المركزي للعراق
كان العراق من مراكز المعارضة الأرأس للخليفة الثالث عثمان بن عفان(رض)،
ومنه ومن مصر جاءت الفئات الناقمة على الخليفة والتي ساهمت في تأجيج التمرد الذي
انتهى بقتله. وبسبب هذا الوضع نقل علي بن أبي طالب(ع) عاصمته من المدينة إلى
الكوفة. وكانت الكوفة هي الأكثر ولاء لعلي بخلاف البصرة التي أصبحت عثمانية.
وبعد مقتل علي وقيام الدولة الأموية تمركزت حركة المعارضة للأمويين في
العراق. لكنها لم تكن معارضة شيعية، ونقصد بالشيعة هنا تلك الموالية للامام علي
وولديه، والمختلفة عن الشيعة الإثني عشرية والتي ستكتمل ملامحها كما هي اليوم، بعد
عدة قرون كما سنفصل ذلك. قلنا إنها لم تكن معارضة شيعية فقط ، بل كانت هناك حركة
أخرى في حجمها وقوتها وهي حركة الخوارج. ثم ظهرت القدرية والجهمية والجعدية وكانت
ناشطة في العراق والشام، فلم تستأثر الشيعة بساحات الصراع التي توزعت على هذه
الفرق، ولذلك لا يمكن اعتبار العراق، في ذلك الوقت، رغم نزول علي فيه، إقليم شيعي
بل هو مركز للمعارضة المتعددة الفئات، ضد الامويين في الشام. لذلك لم تصبح الكوفة
شيعية خالصة رغم أنها عاصمة علي بن أبي طالب(ع) التي قاتلت الأمويين إلى جانبه حتى
نهايته الفاجعة. فقد كانت الكوفة في غضون العصر الأموي والعباسي الأول مسرح لمعظم
الفرق والحركات الفكرية والسياسية. وفيها ظهر المذهب الحنفي، أنضج وأوسع مذاهب
الفقه السني. ولدى التدقيق في شخصياتها الثقافية لا نجد من بينها إلا القليل من
الشيعة. على أنها بقيت من مراكز المعارضة للأمويين ثم العباسيين الأوائل وكانت
أفخم ثوراتها التي قادها محمد بن طباطبا أيام المأمون وهي لم تكن ثورة شيعية إلا
في قيادتها أما جمهورها فهو جمهور المعارضة التقليدي الذي يدعم كل ثائر على
الدولة. وهذا هو شأن البصرة التي سارت وراء إبراهيم بن عبد الله الحسني في ثورته
ضد المنصور.
وهكذا لا يسعنا ربط نشأة التشيع في العراق بحركة المعارضة التي بدأت من عهد
الخليفة الثالث. فقد كانت هناك معارضة يقودها شيعة وجمهورها ليس بالضرورة من
الشيعة وأخرى يقودها الخوارج وجمهورها ليس بالضرورة من الخوارج. وبقي الأمر على
هذه الحال إلى أن حصل الفرز بين القيادة الشيعية، بدءاً من حركة زيد بن علي زين
العابدين غير المعدود في أئمة الشيعة الإثني عشر لا بل أن جمهور الشيعة الموالي
لإمامهم جعفر الصادق وبعد (أن وافق – هذا الجمهور– على مقولة زيد في أن فضل علي بن
أبي طالب لا يستلزم إدانة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب والبراءة منهما عادوا
فطلبوا من زيد أن يدين أبا بكر وعمر فرفض فامتنعوا عن المشاركة في ثورته. هذا ما
فعلته كذلك شيعة العباسيين حيث أمر داعيتهم "بكير بن ماهان" بمقاطعة
حركة زيد وتحذير الناس منها - لأسباب حزبية - . أما الإمام أبو حنيفة النعمان
والمؤسس لأهم المذاهب السنية فقد أيد ثورة زيد وبايعه وأمد الجيش الثائر بعشرة
آلاف درهم).
كانت حركة زيد بمثابة انشقاق على الزعامة التقليدية للشيعة التي ابتعدت عن
السياسة بعد مذبحة "كربلا". وأخذت الزيدية تقود المعارضة إلى جانب
الخوارج وغيرهم ولم يكن جمهور الثورات الزيدية زيدياً إلا في اليمن بعد أن استقرت
الزيدية وسيطرت على جزء كبير من أراضي اليمن وبدأت تقودها نحو التَزَيّد. وقد قامت
ثورات بقيادات زيدية بعد زيد، قادها ابنه يحيى في أفغانستان ثم محمد النفس الزكية
في الحجاز وأخوه إبراهيم في البصرة ويحيى بن عمر في الكوفة والحسن بن زيد في
طبرستان. وهذه كلها تتصنف في حركات المعارضة وجمهورها هو جمهور الناقمين على الدولة
والمستعد للانضمام لأية ثورة وتأييدها. أما التأسيس الشيعي الإثني عشري فيبدأ من
محمد الباقر، أخو زيد، الذي ينتظم في سلك القيادة التقليدية التي ابتعدت عن
السياسة. وقد تفرغ الباقر للعمل الفقهي والكلامي، ومن هنا تلقيبه بالباقر من جهة
كونه بقر العلم بقرا أي شقه. وجرى
على نهجه ابنه جعفر الصادق، الذي يرجع إليه تأسيس المذهب الجعفري في الفقه. واستمر
هذا النهج حتى نهاية سلسلة الأئمة الإثني عشر. وفي ظل هذه الجهود البعيدة عن
السياسة نشأ جمهور الشيعة الإثني عشرية مكرساً تحولها إلى طائفة دينية خالصة.
عراقية التشيع والتسنن
أن (التشيع) لم يظهر في الحجاز حيث عاش الباقر وأحفاده بل في العراق. وكان
التبشير الشيعي ناشطاً هنا وحقق نجاحاً بفعل الخلفية التاريخية للمعارضة الشيعية
في هذه البلاد. واكتسبت الطائفة الجديدة جمهوراً غير واسع من أهل العراق آمن
بإمامة الباقر وأحفاده وجعلهم مراجع في شؤون الدين والدنيا. ثم أخذ هذا الجمهور
يتوسع في أواخر القرن الثالث فصارت للشيعة الإثني عشرية مواقع نفوذ في بغداد
والكوفة وبعض المدن العراقية الأخرى الأقل حجماً. وقد حدث ذلك مع انتقال النشاط
الزيدي المعارض إلى خارج العراق حيث خلا الجو للتبشير الإثني عشري للتغلغل في
العراق وكسب المزيد من المتشيعين لخط الباقر.
في
القرن الثالث الهجري ظهر (التسنن)، وفي العراق أيضاً. وكان ذلك بدعم من الخليفة
العباسي المتوكل الذي أعلن الحرب على جميع الفرق الإسلامية وسعى لإيجاد فرقة
مرتبطة به وتستند إلى سنة النبي استناداً شرعياً بعيداً عن الملابسات السياسية
التي حكمت سلوك الفقهاء قبل عهد المتوكل. وكان شاعر المتوكل، علي بن الجهم، أول
شاعر سني بهذا الشرط. وقد تخصص في الدعوة إلى التسنن واستعمل مصطلح - ُسني - في
شعره. ولكونه ترعرع في ظل المتوكل فقد رهن تسننه بمعاداة علي بن أبي طالب(ع)، فكان
يهجوه بالاسم في قصائد يبدو أنها أهملت فيما بعد فلم تُدرج في ديوانه. وقد وصلتنا
ردود عليه من ِدعبل الخزاعي وهو شيعي اثنا عشري، ومن البحتري وهو مستقل لا ينتمي
إلى فرقة أو طائفة. ونجد هنا اقتران التسنن بمعاداة علي ولكن في نطاق الأدباء.
أما المتكلمون فانصرفوا إلى
تأسيس العقيدة السنية مع احتفاظهم بتقديس علي بوصفه الخليفة الرابع وصهر الرسول
وفارس الإسلام. ولم يتأثروا بسياسة المتوكل في هذا الخصوص. وكان ابن كلاب - بضم
الكاف وشد اللام - أول متكلم سُني ونشط في عهد المأمون حتى أواسط عهد المتوكل.
وربما يرجع إليه اسم أهل السنة الذي ظهر لأول مرة في عهد المأمون ولكن في حدود لم
تصل به إلى الشيوع الذي تم له في عهد المتوكل. ويروي المسعودي في "مروج
الذهب" مهاترة بين المأمون وعمه إبراهيم بن المهدي، وكان المأمون يتشيع على
الطريقة الإثني عشرية وإبراهيم يتسنن، ذكر فيها لفظ الشيعي وذكر المأمون لفظ
المرجي بدلاً من السني، مما يدل على عدم استقرار الاسم حتى ذلك العهد. وفي غضون
القرن الرابع كان التشيع و التسنن في الطريق إلى اقتسام المجتمع العراقي. وربما
اكتملت القسمة في أواخر هذا القرن وأوائل الخامس حيث نجد المعري يوجه تحياته إلى
بغداد بعد مغادرتها فيقول :
سلامٌ هو الإسلامُ زارَ بلادكم ففاضَ على السنيِّ والمتشيعِ
وهذا على أي حال ينبغي أن ينحصر في بغداد ، لأن مدن العراق الأخرى كانت لا
تزال موزعة بين الفُرق كالخوارج والمعتزلة إلى جانب الشيعة والسنة . وكانت مدينة
"عانة " وهي واحدة من مدن الفرات العريقة، معتزلية في ذلك الوقت وهي
الآن سنية كلها. أما البصرة فخليط من الفرق والمدارس الفكرية والسياسية.
أخذ التناحر بين الشيعة والسنة يطفح على السطح مع بداية العصر البويهي في
بغداد. فقد استفاد الشيعة من مداينيهم البويهيين لتوسيع نشاطهم، ليس الفقهي فقط بل
والطقوسي. وجرت لأول مرة في بغداد تعازي عاشوراء - الذكرى السنوية لمذبحة كربلاء -
التي استفزت أهل السنة لأنهم جعلوها في عداد البدع المحرمة. فكانت الغوغاء
الطائفية السنية تخرج بتوجيه من رجال الدين لتخريب التعازي ومنع إقامتها مما كان
يؤدي إلى صدامات مسلحة تقع فيها ضحايا كثيرة من الجانبين. فكانت تعازي عاشوراء من
مواسم الفتنة السنوية ببغداد. وزيادة في إثارة الفتن كان الفريقان يزيدان من
نشاطهما الاستفزازي لبعضهما البعض فيبالغان في تقديس المزارات والعناية بها بل ويلجأن
إلى اكتشاف المزيد من الأضرحة المنسية وإقامة مهرجانات دينية حولها. وكان المقصود
ليس الطقوس والعبادة بل التحدي للآخر. وبالطبع فإن هذه التصرفات لم تكن تصدر
عفوياً عن عامة الناس بل هي من تدبير رجال الدين والمشايخ في الطائفتين. على أن
بغداد لم تخل من عقلاء مصلحين في أي وقت وهم من وجهائها أو كبار فقهائها أو
أدبائها أو سياسيِّها وكانوا من العوامل المؤثرة في إطفاء الفتن والتخفيف من
التوتر في المدينة. وفي هذه الحقبة - البويهية - تكاثر مؤلفوا الشيعة الإثني عشرية
ونشط التأليف في الفقه والتاريخ والكلام والعقائد، ولم يكن للشيعة نشاط ملحوظ في
هذا الميدان قبل ذلك. وكان الأئمة الإثنا عشر، الذين انتهى عهدهم مع الثلث الأول
للقرن الرابع يديرون نشاطاً دينياً هادئاً ومسالماً وكان لهم أتباع يتولون شؤون
الطائفة في العراق وينقلون إلى أبنائها تعاليم الأئمة من الحجاز. ولم يكن في هذه
التعاليم ما يستفز الطرف الآخر. وقد أظهر الأئمة احترامهم للشيخين - أبي بكر وعمر-
ولم يردنا إلا القليل من الانتقادات الجارحة ضدهما التي تحفل بها مصادر الشيعة
الإثني عشرية المتأخرة. وهذا القليل يجب أن يكون موضع شك لأن الرواية الشيعية لم
تقم على أساس التوثيق التأريخي إنما استهدفت خدمة غايات الطائفة.
النشاط الثقافي لأتباع المذهبين
قد يكون كتاب " الكافي"
للكُلَيني - بضم الكاف وفتح اللام - أول كتب الشيعة الإثني عشرية وفاتحة نشاطهم
اللاحق والكليني معاصر الإمام الثاني عشر- عهد الغيبة الصغرى- وتوفي عام 329هـ وهو نفس العام الذي نرجح أن الإمام
الثاني عشر توفى فيه. والكافي كتابان: أصول الكافي وفروع الكافي. والأصول تتضمن
العقائد وأقوال الأئمة في قضايا الدين والدنيا. وفيها نجد بدايات الأساطيرية
الشيعية حول خصائص الأئمة. ولكنه يخلو من الهجوم على أبي بكر وعمر. وفروع الكافي
للفقه، وأخبار الكافي موثقة في العموم عدا الأساطير العقائدية في الأئمة. وتكاثرت
المؤلفات بعد الكافي وفي الحقبة التي تلي الغيبة الصغرى وبدايات البويهيين برز ابن
بابويه القُمي المعروف بالشيخ الصدوق وهو من أغزر مؤلفيهم إذْ كتب حوالي ثلاثمائة
مصنف في التاريخ والأدب والفقه، وراجت مؤلفاته عند شيعة العراق. لكن الأبرز
والأبعد تأثيراً في تطور الطائفة الشيعية هو الشيخ المفيد وكان من أهل العراق، في
العهد البويهي، وضَمَّنَ مؤلفاته أخباراً ملفقة كثيرة يطعن فيها بالخليفتين
والصحابة. وهو الذي أطلق للرواية الشيعية خيالها الجامح وراء الأصول المرعية
للكتابة عند المؤرخين المحترفين. وكتاباته استفزازية تثير التوتر. وقد سخر منه
المعري في إحدى لزومياته.
في نفس الوقت كان السنة يصعدون نشاطهم في التأليف والوعظ والتكتل. وكان
نشاطهم ليس ضد الشيعة حصراً بل وجه ضد جميع الفرق الإسلامية والمدارس الفكرية من
الخوارج والباطنية والقرامطة والمعتزلة والفلاسفة والمتصوفة. وكانت تآليفهم
ومواعظهم استفزازية ضد هذه الهجمات. ومما استفزوا به الشيعة دفاعهم عن الأمويين،
الذي وصل إلى حد تزكية يزيد بن معاوية قاتل الحسين (ع) وتأليف كتب في فضائله وهذا
ما نجد له نظيراً في نهايات القرن العشرين حين عمدت وزارة المعارف
"السعودية" إلى إصدار كتاب مدرسي عنوانه " حقائق عن أمير المؤمنين
يزيد بن معاوية ". ولم تتضمن مؤلفات السنة عهد ذاك طعناً بأئمة أهل البيت
لتحرجهم من ذلك بسبب كونهم أحفاد الرسول (ص). واتجهوا في استفزاز الشيعة هذه الوجه
في تزكية خصومهم وجلاديهم. وقد لا يكون الغرض في الحقيقة هم الشيعة بالذات،
فاللاهوت السني كان موجهاً ضد المخالفة والمعارضة أجمع، وعداء السنة للشيعة من هذه
الجهة ،هو نفس عدائهم للخوارج والمعتزلة والفلاسفة والصوفية. وقد كفَّروا الخوارج وأباحوا
دمهم وفسَّقوا المعتزلة أو كفروهم أحياناً وفعلوا مثل ذلك مع الفلاسفة والصوفية.
فالخصام من هنا لم يكن محصوراً بين السنة والشيعة. ويبقى هذا الوضع وارد في حساب
تأرخة الصراع حتى نهايات القرن السابع حيث انحسرت الفئات الأخرى كما بينا من قبل
وخلت الساحة لمواجهة وحيدة بين السنة والشيعة الإثني عشرية.
المعارضة الشيعية
ساءَ وضع الشيعة بعد زوال الدولة البويهية وظهور السلاجقة الأتراك. وقد
تبنى هؤلاء العقيدة السنية في مساقاتها الأكثر جموداً، فأعلنوا الحرب ليس فقط على
الشيعة والمعتزلة والفلاسفة والصوفية بل واضطهدوا الأشاعرة، وهم سلفيون مثلهم،
لكنهم استعملوا الجدل العقلي في منافحتهم عن مذاهب السلف. واستعمال هذا النوع من
الجدل محرم عند أهل السنة وطريقتهم في ذلك هي النقل والرواية. والمبدأ الحاكم فيه
يكشفه قولهم: "من طلب الدين بالكلام ألحد " وكان هذا هو مذهب الأتراك
السلاجقة.
قلنا بأن وضع الشيعة قد ساء تحت حكم السلاجقة وصاروا لا يجرأون على إجراء
طقوس الزيارة والتعازي دون أن يجازفوا بالتعرض لهجمات غوغائية مسلحة. واستمرت
حالهم على ذلك بعد السلاجقة لأن أيادي أهل السنة بقيت طائلة في عهد الخلفاء الذين
استقلوا عن السلاجقة بدءاً من المقتفي، وكان هؤلاء سنة في جملتهم عدا الناصر لدين
الله ذي الميول الشيعية. وكانت السلطة ببغداد حتى في عهد الناصر سنية والسيادة
والهيمنة لأهل السنة.
دور الصراع الصفوي العثماني
وقد ساء وضع الشيعة الإثني عشرية مرة أخرى تحت الحكم العثماني
للعراق بدءاً من سنة 941 هـ.
ولما ظهر الصفويون جعلوا من هذا الوضع ذريعة لمصادمة العثمانيين والدخول معهم في
نزاع مرير على العراق. وقد دخلوا بغداد أكثر من مرة وهابدوا أهل السنة وهدموا
مزاراتهم. وشدد ذلك من التناحر بين الطائفتين. وكان الصفويون قد تبنوا المذهب
الشيعي الإثني عشري وتشيعت إيران تحت حكمهم بقوة السلطة، وقد أرادوا من هذه الخطة
مواجهة العثمانية السنة. وكان صراعاً مريراً بين إمبراطوريتين اقتضى خوضه الاستناد
إلى ظهير عقائدي. وقد توثقت العلاقة بين شيعة العراق وإيران، التي ظهرت بوصفها
حامية التشيع ورافعة لوائه بين المسلمين. ونشأت علاقة تبادل وتكامل بين حاضرة
الشيعة في العراق "النجف" وحاضرتهم في إيران" قم" فكان لقب
"النجفي" رائج في قم ولقب "قمي" وأصفهاني وما شابه رائج في
النجف. ومن مفارقات هذا الوضع أن الثورة المشروطية، وهي الثورة الدستورية
الإيرانية، كانت تقاد من النجف واشترك فيها المشارطة "الدستوريون" من
شيعة العراق، بينما كانت قيادة ثورة العشرين العراقية ضد الغزاة البريطانيين تضم
عدداً من علماء الدين الإيرانيين كمحمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني..
وهيأ ذلك لأهل السنة اتهام الشيعة العراقيين بالولاء لإيران
وخدمة مصالحها على حساب العراق العربي. لكننا نقف مع ذلك على نزاع خفي ومكشوف بين
العنصر العربي والعنصر الفارسي بين الشيعة في مدينة النجف، وكثيراً ما يظهر هذا
النزاع عند وفاة مرجع من آيات الله والسعي لاختيار مرجع آخر إذ يرشح العرب آية
الله عربي والفرس آية الله فارسي. وكان مجيء محسن الحكيم بعد أبي الحسن الأصفهاني
بمثابة انتصار لعرب النجف مع أنه احتفظ بعلاقات متينة مع السعودية وإيران
الشاهنشاهية آنذاك، وبعد وفاته اتجهوا لمبايعة الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي فرفض
المرجعية فاستقرت لأبي القاسم الخوئي .
ملاحظة مهمة:
ان هذه الدراسة، هي جزء من دراسة مطولة
سبق وان نشرت بالاشتراك مع أستاذي ورفيقي الراحل هادي العلوي البغدادي. وقد اعتمدت
على مصادر وشروح كثيرة، نسجل بعضا منها:
المصادر الاساسية
1- الطائفية إلى أين؟ تأليف مجموعة من الباحثين
المصريين، دار المصري الجديد.
2- محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي.
3- تاريخ الطبري : أحداث سنة 37 هـ .
4- تحف العقول لابن شعبة، ص340.
5- روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية .
6- حسن العلوي، الشيعة والدولة القومية، ص 10
وما بعدها / دار الزور.
7- حنا بطاطو، العراق-الكتاب الأول، ص352.
8- جعفر السبحاني / الوهابية في الميزان/ ص420
، وما بعدها / مؤسسة النشر الإسلامي قم- إيران.