ملف كركوك قلب العراق
علي الكركوكلي ذلك العراقي الذي دوَّخَ الانكليز في السودان
سلام الشماع / دمشق
هذا الرجل
العراقي مواطن شجاع من مدينة كركوك عاش في مجاهل افريقيا في القرن التاسع عشر وعلَّمَ
أهل تلك الاصقاع تطوير فنون صيد الفيلة ثم تزعم مجموعة من السكان وقاوم الانكليز
وهزمهم بعد ان أسر منهم أعداداً كبيرة وساند ثورة المهدية في السودان.
من المؤكد ان
لهذا الرجل أقارب في كركوك أوغيرها تناقلوا قصته عن آبائهم وأجدادهم وهم يستطيعون
الآن اكمال معلوماتنا عنه ومعرفة مصيره وكيف أنهى حياته، فنحن لا نعرف عن هذا الرجل
الاّ اسمه وإشارات متناثرة وردت في هذا المصدر أو ذاك اطلقها عدد من الرحالة
الاجانب، وهذه الاشارات تحفزنا لمتابعة سيرة هذا الثائر الشجاع.
من قنص
الفيلة الى أسر الانكليز
اسم الرجل هو
علي الكركوكلي، ولانعرف اسم ابيه ولا جده فالمصادر المذكورة لم تذكر أكثر من ذلك،
ولكنها تسميه (علي الكركوتلي)، ذلك لان الوثائق المصرية تسمي كركوك (كركوت).
الطموح هو ما
قاد هذا الرجل الى العمل في مصر موظفاً مدنياً أو ضابطاً عسكرياً، وكانت مصر في
عصر الخديوي اسماعيل تتمتع بحكم مستقل، من الناحية الفعلية، عن الدولة العثمانية
وتعمل لمد نفوذها السياسي والحضاري الى أقاصي السودان، وحتى أوغندا وما حولها، فأنضم
الكركوكلي الى الادارة المصرية في مديرية خط الاستواء في جنوب السودان حالياً،
واستطاع التكيف على نحو مثير للدهشة مع بيئة ذلك المكان القاسي المختلف عن بيئة
وطنه الاول ومناخه. وحينما اضطرت الحكومة المصرية الى سحب قواتها من تلك المناطق،
تحت ضغط من سلطات الاحتلال البريطاني، في إثر فشل ثورة عرابي سنة1882 اختار علي الكركوكلي
الاقامة النهائية في تلك المجاهل الافريقية الموحشة.. والاكثر غرابة انه امتهن صيد
الفيلة، وهي أصعب ضروب الصيد وأخطرها، وصار له اتباع من العرب المقيمين هناك، وعاش
كواحد من الافارقة الاصليين، بل انه بزهم في صيد الفيلة.
يروي تقرير
كتبه اليوزباشي كازاتي، الذي قام برحلة الى مديرية خط الاستواء، في سنة 1883 انه قدم ذات يوم من
بلدة (امادي) ساع مستعجل للغاية ليبلغ ان قناصاً من قناصي الفيلة يقال له علي
الكركوتلي جمع بعض الدناقلة (وهم عرب من منطقة دنقلة) عندما وصل نبأ وصول
الامير(كرم الله) مضى معهم الى المهديين ولما مروا بمحطة (صيادين) الصغيرة قتلوا
سبعة جنود من حاميتها.. وكان لدى حكمدارية الحكومة المصرية في خط الاستواء قناصون أشبه
بـ (علي الكركوتلي) مرتب لهم ماهية شهرية قدرها (25) قرشاً وكان يصرف لهم ثمن ما
يوردونه من العاج للقنطار الواحد (5) قرش، ويوردون عادة من قنطار الى
عشرة قناطير في الشهر.
ويوضح التقرير
المذكور الطرق التي كان يتبعها أولئك القناصون لصيد الفيلة، وهي طرق تدل على الشجاعة
المطلقة، التي كان يتحلى بها اولئك الرجال وكان لـ (علي الكركوكلي) دور بارز في
قنص الفيلة وفي تطوير طرق صيدها، بل انه اضاف طرقاً ذكية لم يكن يعرفها صيادوا
الفيلة من الافارقة، الذين عايشوا هذا النوع من الحيوان.
بحر الغزال
يصف المؤرخ
والخططي العراقي المعروف الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف علي الكركوكلي بأنه طرزان
عراقي عاش في مجاهل افريقيا. ولم يكف الدكتور عماد عن ملاحقة الاشارات الخاصة الى
الكركوكلي في المصادر والوثائق والكتب وهو لم ييأس من التعرف على سيرته كاملة وأصله
وفصله وعائلته وعشيرته، ومصيره المجهول حالياً.. وهو يقول..
- ان
الكركوكلي تزعم القبائل العربية، التي كانت موجودة في خط الاستواء وشكَّل منهم قوة
متجانسة قاومت القوات البريطانية التي شرعت آنذاك باحتلال السودان. ومن أعماله
التي نمت عن وطنيته وشجاعته انه خاض معركة ضد القوات البريطانية في آب من عام 1884 واستطاع ان يأسر عدداً
كبيراً من الجنود ويودعهم معسكر اعتقال في بلدة (صيادين) هناك، وحينما حاولت قوات
بريطانية التقدم الى ذلك المعسكر لاطلاق سراح الاسرى تصدى لهم الكركوكلي مع قوته
العربية من الدناقلة واستولى على عدد من قطع السلاح واضطرت القوات المهاجمة الى
الانسحاب ثم الفرار الى قواعدها.
- وقد وقعنا
على تقرير بريطاني تناول هذه الهزيمة ووصفها بأنها (كارثة وخيمة يترتب عليها شموخ
الدناقلة ورفع رؤوسهم).
- تقرير
بريطاني آخر عثر عليه الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف اشار الى ان الكركوكلي استطاع
ان يجمع جموعاً من الدناقلة في محطة صيادين ويجرد قوة بريطانية أخرى من سلاحها
ويزجها في معسكر اعتقال هناك مما اضطر القوات البريطانية التي كانت تنتظر نتائج
المعركة الى الانسحاب بسفنها ومدفعيتها وذخيرتها الى قواعدها، التي انطلقت منها.
ويبدو ان (علي
الكركوكلي) لم يكتف بالدفاع عن المواقع، التي كان يسيطر عليها فعلاً، وانما شرع
بتحشيد قواته للتقدم لتحرير المدن والمناطق الاخرى من سيطرة البريطانيين، ففي
تقرير بريطاني آخر وقعنا على اشارة الى ان أهالي محطة صيادين تأهبوا بقيادة القناص
(علي الكركوكلي) لهجوم على (امادي) وان الروح المعنوية لدى العساكر على مايرام.
وتضمن تقرير
كتبه الطبيب الانكليزي جونكرز عن رحلة قام بها الى مديرية خط الاستواء عام 1884 اشارة الى الدور
العسكري المهم، الذي كان يقوم به علي الكركوكلي في منطقة بحر الغزال، اذ تعاون مع
عدد من قادة العرب المحليين في تشتييت حامية (شمي) وهي منطقة في الاستواء واجبارها
على الفرار الى باشودة في أقصى مديرية خط الاستواء.
الكركوكلي
يختفي
وتتوالى
الاشارات في الوثائق البريطانية الى (علي الكركوكلي) فهذا هو اليوزباشي كازاني
يقول في التقرير الذي كتبه عن رحلته: ان (علي الكركوتلي) من قناصي الافيال القدامى
وان أعداداً من الثوار كانت تنضم اليه طوعاً وانه خاض رحى الحرب مرات عدة في مدن
متعددة كان أخطرها تلك المعركة، التي وقعت أمام حصون امادي في الثامن من كانون
الاول سنة 1884،
اذ انضم الاهالي الى الثوار واضطر حامية البلدة الى الانسحاب.
كما اشار التقرير
نفسه الى اتساع الثورة وانتشارها في مناطق اخرى من خط الاستواء والى ان
البريطانيين أخلوا، فعلاً، بلدة امادي وعدداً من الحصون هناك.
وهذا هو
الطبيب الانكليزي جونكرز يعود ليضمن تقريرا آخر كتبه عام 1885 اشارة مهمة جدا الى
ان (علي الكركوتلي) كان قد انضم بقواته العربية الى الثورة المهدية في السودان
وانه كان ينسق مواقفه مع قوات هذه الثورة ضد القوات البريطانية. وفي شباط عام 1885 حصل الكركوكلي على امدادات
عسكرية ممن انضم اليه من القوات المهدية وفي نهاية آذار من السنة نفسها كادت قوات
معادية أن تفتك بالكركوكلي الاّ انه استطاع ان ينجو منها وان يشق له طريقاً بين
خطوط الاعداء ويفلت من قبضتهم.
ويورد جونكرز
خبراً آخر عن الكركوكلي بانه كان يقود قوة غير معلومة العدد تتألف من العرب الذين
كانوا يستوطنون المنطقة.
من يدلنا
على مصيره؟
وبعد هذه
الاشارة الاخيرة اختفت أخبار (علي الكركوكلي) فجأة، ومن المؤسف ان التقارير
التالية خلت من أخبار هذا القناص العراقي الثائر، ومن المؤكد انه انسحب بقواته،
التي ذكرها جونكرز الى معاقل الثورة في السودان، وانه شارك الثوار انتصاراتهم
وهزائمهم، على حد سواء الاّ اننا لا نملك معلومات مؤكدة عن مصيره بعد تلك
الاحداث, كما يقول المؤرخ والخططي الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف.
* ولكننا يا
دكتور نريد معرفة مصير الكركوكلي!
يقول: - لو
اتيحت لي فرصة السفر الى مصر لحصلت على تفاصيل كثيرة تؤلف دراسة وافية تكشف حياة
هذا الثائر العراقي ومصيره واسهاماته في تحرير السودان، فالمفروض ان المصادر
المصرية والبريطانية المعاصرة وخاصة الموجودة في مركز الدراسات الافريقية التابع
الى جامعة القاهرة تتوفر فيه مثل هذه المعلومات.
ويضيف: - ان
سيرة علي الكركوكلي، ذلك المواطن العراقي الذي عمل في مصر وعاش في مجاهل خط
الاستواء وعلَّم الافارقة صيد الفيلة، تبقى انموذجاً حياً لما يمكن ان يكون عليه
الانسان العراقي من شجاعة نادرة وقدرة فائقة على التكييف ومشاركة فعالة في مساندة
الثورة في أقسى البيئات وأبعدها في العالم.
يبقى ان نقول ان من حق (علي الكركوكلي) على
وطنه أن تقوم وزارة الثقافة المركزية أو وزارة الثقافة في حكومة اقليم كردستان بأرسال
من هو قادر على جلب هذه المعلومات من مراكز الدراسات في القاهرة والسودان.. وليكن
هذا الرسول الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف نفسه الذي أمسك رأس الخيط في التعرف على هذا الرجل، كما سيكون مهماً
ومفيداً وضرورياً، أن ينشر أي مواطن عراقي وخاصة من الكركوكليين ما يعرفه أو ما
سمعه أو قرأه من معلومات عن هذا القناص العراقي الثائر.