أدب
عبد الامير المجر/
بغداد
al_majar@yahoo.com
كانت لعبة جميلة، علمتني إياها جارتنا
الارملة العجوز أيام كنت صغيراً، إذ كلما أرادت أن تزجّي وقتها عند الضحى، أكون أنا
قد وضعت رأسي الصغير على فخذها الطري النحيف، بعد أن نفترش التبن تحت شمس الشتاء
التي تفيض على جسدينا بالدفء عند الجانب الشرقي من كوخها القصبي الغافي على ضفة شط
قريتنا التي تتسامق بين بيوتها أشجار الغرب والنخيل ..
كنت اشعر بالضجر، وأبدي ممانعة لما تدعوني
لتفلّي رأسي، كي لاأحرم نفسي متعة اللعب مع أترابي، لكنني سرعان ما أستسلم للذة
غريبة، تنبعث من بين أصابعها وهي تجوس في شعري الأشعث، تعقبها بين حين وآخر، ضغطة
على الرأس، أسمع بعدها طَقّة خفيفة، فأعرف حينها انها قصعت قملة، ظفرت بها مختبئة
بين الشعر! ولما تضرب على كتفي وتسحب نفسها أعرف انها ضجرت أو نسيت عملاً ما،
كثيراً ما أراها تتصنعه، لتملأ نهاراتها الطويلة، لكنني أشعر بالراحة لأن رأسي لم
يعد يحكني أكثر، وأسرع مسروراً نحو أترابي لألعب... ذات يوم، كانت البداية مع أول
درس، أو أول لقاء لي بالقمل، حين دعتني لأفلّي رأسها، ولأول مرة أعرف انّ لها كل
هذا الشعر الكثيف، عندما أسفرت عن جدائل طويلة، حمر بفعل الحناء، وبعروق بيض،
كثلوج الجبال التي تتعامد أمامي الآن عند الحدود، أخذت تفتحها تحت الشمس على مهل،
ولما جلست قربها، تمددت على التبن واضعة رأسها على فخذي الغض، ولأني لم أعرف الفلي
من قبل راحت تعلمني كيف أقصع القمل الذي صارت مهمة اكتشافه، فيما بعد مسلية لي !..
قالت لي، احصر القملة بين ظفري الابهامين وأضغط .. وعندما أقصع، اسمعها تجيبني،
وتقول .. عفية !، وكلما أوغلت في القصع وتركت خلف أصابعي الكثير من جلود القمل
السوداء، المفرغة بين غابة شعرها الكثيفة، وعدتني أن تفلي رأسي، أو كافأتني بحفنة
من زبيب، تدخره في صناديقها لأيام الاعياد أو أيام أخر، تكثر فيها الصلاة !.. لكن
متعتي باللعبة الجديدة التي علمتني إياها، كانت تفرحني وتنسيني بهجة اللعب مع
الصحاب، فحينما اكتشف قملة أخبرها، فتقول، لاتفلت منك. اتعقبها وهي تسعى لتلوذ في
مجاهل الشعر الذي أفتحه بأصبعيَّ، بسهولة، وتبقى تحت عيني حتى أقصعها .. احياناً
أناكدها وأضع القملة بين يدي، لأريها مهارتي في الاصطياد، فتبادر باحتداد .. اقصع
.. اقصع، فأضحك ثم أضغط فيتدفق الدم على الظفرين، قبل ان أمسحه بالارض وأواصل
البحث عن المزيد من القمل المذعور !...
حين طالت قامتي، كانت سنوات الحرب صحارى
واسعة، تهت وسطها، بعيداً عن قملاتي القديمات، وكلما تذكرت أيامي، نقلتني أطياف
الطفولة الى أحضان جدتي الارملة العجوز، أتجول بين شعرها الكثيف عن مكان ألوذ به
بين القمل من طيش الرصاص، وتنتابني لحظات اشفاق مجنونة على تلك الكائنات الصغيرة
التي لاتدري لماذا تطاردها الاصابع الرشيقة في أي شعر حلّت !...
كنت أسير وسط الاحراش القريبة من مواضع
وحدتي، عندما خيل لي انها تدعوني للعب وسطها، فأغيب ساعات أفتش عن قريتي التي اسمع
هسيس بيوتها القصب، يناغي حفيف الاحراش العالية بين الجبال، يناغيني !.. وأحياناً
أنام، أنام لأحلم بأهلي وجدتي العجوز التي رحلت وأورثتني عشق القمل أو عشق مصارعه
حين يكون مصرع القملة لعبة، تلهو بها الاصابع وتنعس بعدها الرؤوس، لتحلم بأشياء
عديدة، جميلة، ليس فيها للقمل القتيل من مكان !..
لم تكن شمس الضحى كافية لبث الدفء بين
الاحراش، لكنها كافية لتفضح لهو الحشرات بينها، بعيداً عن مرابض الجنود .. أشعلت
سيكارة، وهممت بمد يدي نحو حشرة صغيرة، تشبه قليلاً احدى قملاتي الشهيدات، كنت أود
امساكها لأنتزع منها لحظة طفولة واحدة تبعدني عن المكان، لكنني فوجئت برعد يعكر
صحو السماء، يقترب، فأسرعت راكضاً بين الاحراش العالية لأخفي نفسي عن عين طيار
المروحية (السمتية) التي فاجأتني من فتحة بين الجبال المقابلة.. كان رأسي الحاسر،
يفضح سواد شعري بين الخضار، وأنا أجري في الشق الذي أحدثه هواء المروحية، يتعقبني
طيارها بسهولة، رفعت رأسي باستسلام وقنوط، فخيل لي أنّ للطائرة أصابع عملاقة،
ستلتقطني إن لم يقتلني طيارها الذي رأيته مصوباً سلاحه ونظره لي، يبتسم، أو خيل لي
ذلك .. وفي لحظة ستظل أسيرة الذاكرة، أحاطتني شبكة، هبطت من الطائرة، وألتفت حولي،
أخذت أحرك يديّ وقدميّ لأتخلص، من دون جدوى، ثم ارتفعت بي واستدارت بصيد سهل سيمحو
أسمي السابق أو يغلفه تحت مسمى جديد .. أسير .. في تلك اللحظات، أحسست أن صوتاً
يأتيني من خلف الجبال، في الجهة المقابلة التي تركتها، ويتسرب بداخلي، يلقي بي على
ضفاف شط قريتنا، حيث جدتي العجوز، مسفرة عن شعرها الكثيف ورأسها على فخذي الغض
الذي ألتف الان على جسدي المتكور في الشبكة المعلقة في الفضاء، يتردد بألحاح ..
اقصع .. اقصع .. !! ..