التاوية الصينية ورؤيتنا الوسطية
سليم مطر/ جنيف
رمز التاو(الانسجام الكلي بين قطبي الوجود، الانثوي والذكوري)، ويبيِّن
الخط الفاصل المتلوِّي أن هذين القطبين
دائما التداخل واحدهما في الآخر، وتُظهِر الدائرة الصغيرة ضمن كلٍّ منهما إمكان التحوُّل من
الواحد للآخر
في الصين هنالك ثلاث عقائد متداخلة مع بعضها
البعض رغم تمايزها التاريخي والتفصيلي:
ـ الكونفوشيسية، والبوذية (القادمة من
الهند)، ثم التاوية.
الكونفوشيسية تعالج علاقة الفرد بالمجتمع
والدولة وتعلم الانسان كيفية تطبيق النظام. البوذية تعالج علاقة الانسان بذاته
وخالق الكون.
اما التاوية فتعالج علاقة الانسان بالحياة والوجود بأجمعه،
وكيفية خلق التناغم الكلي في داخل الانسان وفي خارجه حتى بلوغ (التاو) أي الانسجام
الكلي. وهي تعتبر اكثر العقائد
حضورا وتأثيرا في الحياة الصينية. وتحتوي على جوانب عديد تتعلق بالكثير من تفاصيل
الحياة الانسانية والوجود الكوني.
ان اقدم مصادر التاوية الفلسفية تعود الى
كتابين أساسيين: الأول وهو الـ” يیکنك”، ألفه “لاوتسه” الذي يعتبر مؤسس التاوية، في
القرن الـ 3
ق.م. والثاني هو الـ”چنگ تسی”، ويضم مجموعة من الأمثال والمواعظ، صنفه “چنگ تسي” بعد فترة قريبة من صدور الكتاب
الاول.
من اقوال لاو تسه: الانحناء هو الاستقامة / الفراغ هو الامتلاء / الاهتراء
هو التجدد / امتلاك القليل هو حقُّ الامتلاك.
ومن اقوال (چنگ تسی): لأن هناك قبحاً يرون في الجميل
جمالاً / لأن هناك جمالاً يرون القبيح قبيحاً / الوجود واللاوجود يأتي كل منهما من
الآخر/ يتكامل الصعب والسهل / يتوازن الطويل والقصير/ يتساند العالي والمنخفض /
يتجاوب الصوت والصمت / يتتابع القبل والبعد / لذلك وحده الحكيم لا يتدخل في مسار
الأشياء وبدون كلمات يعلم / مادامت هناك حياة، هنالك موت، ومادام هناك موت، هنالك حياة.
بوجود ما هو صحيح يوجد ما هو خطأ، وبوجود ما هو خطأ يوجد ما هو صحيح. هذا هو ذلك،
وذلك هو هذا كذلك. هل يوجد فعلاً فارق بين هذا وذلك؟ عندما ينعدم التناقض
بين هذا وذلك، نبلغ (التاو ـ الانسجام الكلي). .
جوهر التاوية
التاوية مثل كل عقيدة، تحتوي على جانبين
مختلفين: الجوهر الفكري ثم المكملات الاسطورية الشعبية. ففي التاوية كما في كل
عقيدة، مع الاساس الفكري هنالك الكثير من التصورات الروحیة والطقوس والحكايات
الرمزية والمعتقدات الشعبية، وغيرها. فهي تدعو إلى احترام الذات والانعزال عن الحياة
العامة، واتباع نوع من التصوف والعبادة التأملية والتي ارتبطت باليوغا الخاصة بها.
أما جوهر التاوية والذي يمكن ان يفيدنا في
رؤيتنا للحياة وللمجتمع ولا يتعارض مع اية عقيدة او دين، فيمكن تحديده بالفكرة
التالية:
ـ ان الوجود بأجمعه، بما فيه الوجود الانساني،
يتكون من قوتين او طاقتين متكاملتين: (ين ـ يان) وتكتب أيضاً (ينغ ـ يانغ) ولفظها
الصحيح هو(ینگ ـ یانگ). ويمكن ترجمتهما بعدة كلمات: المؤنث ـ المذكر/ البارد ـ
الحار/ المنفعل ـ الفعال / السالب ـ الموجب. هذه (الثنائية تكاملية) بمعنى انه أي
طرف منها لا يوجد الاّ مع الطرف الآخر. فليس هنالك ليل دون نهار، شهيق دون زفير، ذكر
دون أنثى، عالي دون واطي، ساخن دون بارد.. إلخ؛ وكلٌّ منهما يحمل معه قدرة
التحوُّل نحو الآخر.
أما كلمة (تاو) تعني (طريق الانسجام)
للتوازن والتكامل بين طاقتي الوجود. او بمعنى آخر، القوى المطلقة والغاية القصوى
لكل الوجود.
ان الفلسفة التاوية تعتقد أن كل شيء في
الوجود إما (مؤنث) أو (مذكر).. نعم كل شيء : البشر والحيوان والنبات وجميع المواد
وأعضاء الجسد والسماء والأرض وحتى الغذاء والدواء. مثلاً، النهار مذكر والليل
مؤنث، الحر مذكر والبرد مؤنث، المالح مذكر والحلو مؤنث، الحديد مذكر والخشب مؤنث..
الخ.
من صفات ونماذج اليان: فهو: الذكورة، الموجب، النهار، الوضوح،
الشمس، البياض، السماء، الجنوب، اليمين، الامتلاء، الفعل، الحركة، السخونة،
الاقتحام، الزيادة، الاتجاه نحو الخارج.
من صفات ونماذج الين: الأنوثة، السالب، الليل، العتمة، القمر،
السواد، الارض، الشمال، اليسار، الفراغ، الانفعال (أي تلقي الفعل)، السكون،
البرودة، الاستقبال، التناقص، الاتجاه نحو الداخل.
من تطبيقات التاوية
ان مبدأ (التاو) او
البحث عن التوازن والانسجام بين ثنائيات الوجود قد تم تطبيقه في الكثير من مجالات
الحياة الاجتماعية في الصين، منها:
ـ (الطب الصيني)، وهو من اهم مجالات
التطبيق التاوي، فهو قائم على الفكرة البسيطة التالية: ان جسم الانسان يحتوي على
هاتين الطاقتين (اليان الحارة، والين الباردة). ان الصحة تعني التوازن بين هاتين
الطاقتين، والمرض يعني الخلل في توازنهما. وتسري الثنائية ايضا على اعضاء الانسان. فجلده مثلا، يغلب
عليه ”اليان” لأنه خارجي، وداخله “ين” وهكذا كل أعضائه الداخلية خارجها يغلب عليه
”اليان” وداخلها ”ين”. تُعتبَر أحشاء الإنسان المحمية من العوامل الخارجية
أعضاء (ين)، بالمقارنة مع الجلد والعضلات التي تُعتبَر(يان). تعتبر الرجلين (ين)
والذراعين (يان). كما تُصنَّف الأحشاء نفسها إلى أعضاء جوفاء، كالمعدة والامعاء
والمثانة، التي تقوم بأعمال التحويل والتصريف، وتُعتبَر(يان)، وإلى
أعضاء غير جوفاء، كالكبد والطحال والرئة، التي تقوم بأعمال التركيب والتخزين،
وتُعتبَر( ين). كذلك هنالك مجاري (قنوات) لهاتين الطاقتين في جميع أنحاء
الجسم، ولكل نوع منهما ثمة مراكز تحكم منتشرة في أنحاء البدن الخارجي. ان الأمراض محاولة كيان الانسان لإصلاح عدم توازن معين في
بدنه ناتج عن تخلخل سلوكه اليومي وتغذيته. وهذا يعني انه يجب ألاّ يُنظَر إلى
الامراض كعدوٍّ بل كصديق: فالمرض ليس دومًا قصاصًا أو علامة
ضعف، بل هو رد فعل الجسم من اجل اجبار الانسان الى اعادة التوازن في سلوكه.
ويعاد هذا التوازن من خلال تحسين السلوك وكذلك الاغذية والادوية العشبية والوخز بالابر،
من اجل اعطاء فرصة للطاقة للتحرك في أنحاء الجسم وتقليل الطاقة الزائدة، وزيادة
الطاقة الناقصة. فمثلا لو كان المرض بسبب زيادة في طاقة اليان وقلة
الين، فأن المريض عليه ان يستهلك اغذية فيها طاقة الين (الباردة) ويمتنع عن اغذية
اليان (الحارة). وهنالك ايضا ادوية وتمارين معينة تساعد في
عملية التوازن.
كذلك طبق مبدأ (الين واليان) على الكثير من
مجالات الحياة، مثل رياضة المبارزة الصينية (كونفو)، وتمارين التوازن (تايچی کوین)
و(كي كونغ). بل طبقت التاوية حتى على تنظيم سكن الانسان (فانگ تشو) حيث تبنى المدن
والبيوت وتنظم دواخلها بصورة تحترم التوازن بين طاقتي الين واليان. فينصح مثلا ان
يكون اتجاء الرأس عند النوم نحو الشمال والشرق، لأنه اتجاه (ين) يمنح الهدوء والخدر،
أما وضعنا في العمل فيحسن ان نتجه نحو الجنوب والغرب لأنه اتجاه (يان) فعال ومنشط.
فكرنا الوسطي
حسب علمنا، بأننا
أول من استخدم (الثنائية التاوية) في علم الاجتماع (راجع الفصل الثاني من كتابنا ـ
الذات الجريحة، الذي صدرت طبعته الاولى عام (1997).
فالثنائية التاوية قد استخدمت أساساً في تحليل وضع الفرد الانساني وكذلك على
الوجود الطبيعي والكوني، لكنها لم تستخدم في رؤية المجتمع الانساني، أي في (علم
الاجتماع). وقد اطلقنا على طريقتنا هذه بالتحليل الاجتماعي (الفكر الوسطي).
استنبطنا رؤيتنا
هذه بالتحليل الاجتماعي، من خلال المقارنة بين (الثنائية التاوية) التي هي (ثنائية
تكاملية)، مع (الثنائية التناقضية) السائدة خصوصاً في ثقافة شعوب البحر المتوسط،
الغربية والشرقية، أي العالمين الاوربي والعربي، وبالذات في الاديان السماوية. وهي
(ثنائية الأحسن والأسوأ). بينما الثنائية التاوية هي (الثنائية الانسجامية) حيث كل
طرف لا يكتمل إلاّ بالطرف الآخر.
طبعا هذا لا يعني
اننا ننفي (ثنائية الخير والشر، والجيد والسيء). نعم هنالك (ثنائية خير وشر)،
لكنها تابعة تماما لـ (ثنائية الين واليان التكاملية)، كيف؟
الجواب: ان الخير هو
الانسجام والتكامل بين الثنائيات، اما الشر فأنه ينتج من تخلخل الانسجام والتوازن
بين هذه الثنائيات، والمغالات في دور أحد الطرفين على حساب الطرف الآخر. فمثلا، ان
توازن (البرد والحر، الليل والنهار، الرجل والمرأة، الدين والدنيا، الحداثة
والاصالة، الدولة والشعب، الواجب والمتعة، الفرد والمجتمع...)، هو الخير، وغلبة
أحدهما على الآخر، هو الشر.
ان (الوسطي) هو
أولاً وأخيراً من يعتمد على مبدأ النسبية في التعامل مع ثنائيات الوجود. الخير لا
يكمن إطلاقاً في أحد طرفي الموجودات، ولا الشر يكمن في الطرف الآخر. الخير والشر
يكمنان في الطرفين معاً وفي آن واحد: البرد وحده هو الشر، كذلك الحر وحده هو الشر،
والانسجام والتوسط بين الاثنين هو الدفء والراحة للانسان والطبيعة. الخير يكمن في
انسجام الثنائيات، والشر يكمن في تناحرهما. الأنثى وحدها هي الوحشة والجفاف،
والذكر وحده هو السأم والموت، الانسجام والتوافق بين الاثنين هو الحب والخصب
والحياة. بين الماضي والمستقبل هناك الحاضر، والحاضر هو الخير وهو الواقع، وهو
الماضي والمستقبل بآن واحد. ان الشر لا يكمن في النار وحدها بل في الثلج أيضاً،
أما الخير فيكمن في وسط النار والثلج، أي الماء الجاري من اتحادهما، وهو الارتواء
والخصب وسر الحياة.
التوفيقية والوسطية
كثيراً ما يساء فهم
نظريتنا (الوسطية) باعتبارها نوعاً من التوفيقية والنفعية المتغيرة. الحقيقة أن
هناك فرقاً بين هذين المفهومين. التوفيقية هي محاولة الجمع بين النقيضين جنباً الى
جنب والمناورة بالاعتماد على كل منهما، بينما الوسطية هي البحث عن الاعتدال بين موقفين
متطرفين بتناقضهما. لوأخذنا معتقدين متضادين مثل العلم والدين، فإن التوفيقي يحاول
أن يكون بنفس الوقت متديناً جداً وعلمياً جداً دون أي محاولة لأيجاد منطق واحد
يجمع بين الموضوعين، إذ تراه ينتقل من حالة التزمت الديني الى حالة التزمت العلمي
حسب المزاج والظرف والمصلحة. أما الوسطي فانه يبحث عن المنطق الواحد الذي يجمع بين
العلم والدين مع تشذيب كل منهما من جوانبه المتطرفة. أي أنه يعتمد على مبدأ يفترض
فيه أن القوى الغيبية والالهية يمكنها أن تكون حقيقة موجودة ومسؤولة عن انبثاق
الدين، لكن هذا لا يمنع أن تكون هذه القوى أيضاً مسؤولة عن العلم ومانحة للانسان
القدرة على التفكير والابداع.
المجتمع الوسطي
بناءاً على هذا فإن
أي مجتمع لن يبلغ الاستقرار والأزدهار إلاّ بتوازن ثنائياته وتكاملها: الدولة
والمجتمع، القوى السياسية والقوى المدنية، الدين والعلم، الانتاج والابتهاج،
المدينة والريف.. ومن بين كل ثنائيات المجتمع، فإن ثنائية (المرأة والرجل) هي
الأكثر أهمية، في جميع النواحي البيولوجية والروحية والتربوية والاقتصادية
والسياسية. دائماً المجتمعات التي تعيش حالة عنف وتوتر وقمع هي المجتمعات التي
يبلغ فيها تخلخل التوازن بين الرجل والمرأة حده الأقصى، حيث السيطرة الحاسمة
لعناصر الذكورة ورموزها: الفحولة والأبوة والقوة والعمل والعقل (الخالي من العواطف
والضمير) والسلاح والحديد والجفاف والصراخ والفردية. كل هذه العناصر (الذكورية) هي
ضرورية ومفيدة للمجتمع في حالة التخفيف من سيطرتها بموازنتها وامتزاجها مع عناصر
الأنوثة : الأمومة والليونة والراحة والعواطف والخضرة والرطوبة والهدوء والروح
الجماعية.
لهذا فان المجتمع
الأمثل هو المجتمع الذي يتمكن من تحقيق التوازن بين مكوناته الذكورية والأنوثية،
في الدولة والادارة والقانون والدين والثقافة والتربية وجميع مكونات الحياة
المادية والروحية.
المصادر
ـ الذات الجريحة / الفصل الاول / سليم مطر/
بغداد2007
ـ كتاب التاو / هادي العلوي/ دار المدى 2002
ـ موسوعة تاريخ الأديان - الكتاب الرابع / فراس السواح / دار علاء
الدين / دمشق 2006
ـ التاو/ رانيا مشلب
/ مؤسسة الإنتشار العربي / 2001
- Le guerrier érudit - une introduction au tao dans la
vie quotidienne/ Ming-Dao Deng / Chariot
d'or/2005
-Taoïsme/Jennifer
Oldstone-Moore / Gründ/2004