جرائم الشرف
في العراق..
العار المشترك
مغسولاً بدم المرأة..
محمد مظلوم
لا
يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى
يراق على جوانبه الدم..
هذا
( الشرف الرفيع ) في بيت المتنبي، الذي يعد أكثر شاعر عراقي وعربي حمل قيم
الفحولة، وهو يبدو اليوم شديد الالتباس، لم يجر إسناده، لدى أغلب المتحدثين في
مجالس العشائر في العراق وهم يتمثلون به بفخر، سوى إلى مدلوله النفعي متحصناً
بالمرأة، ومتشبثاً بفكرة العفة الجسدية لفتيات العائلة والفخذ والقبيلة، فهي عنوان
الشرف الأبرز، هكذا يجري تفسير القيم الدينية أيضاً، لكنه شرف يجري توجيه طقوسه
الأضحوية باتجاه واحد، اتجاه جنساني يضع القرابين النوعية في بلداننا في معادلة
قسرية وقسمة ضيزى.
وإذا
ما كان المتنبي شاغل الناس بمستوى أشعاره التي تفيض حكمة غامضة، فإن المرأة شغلت
الأمم بغموض من مستويات أخرى.
فبينما
قامت واحدة من أكبر الحروب الأسطورية بسبب امرأة، أو هكذا أراد أعمى الإغريق أن
يرى بإلياذته، فإن الشرف لم يلتصق بمفهوم العفة الجنسية لهيلين نفسها، فلم تكن هيلين
إلا معادلاً للشرف الإسبارطي الجمعي المثلوم على يد احد صبيان طروادة الساحرين!
هبة
مينلاوس وجموع الأسبارطيين والإغريق جاءت من أجل استعادة وجه هيلين المسروق ، ليس
لإلحاق الأذى به، بل لتأكيد طهرانيته.
لكن
هيلين نفسها، سبب الحرب الملحمية الطويلة، وحرق المدن ومقتل أبناء الآلهة، كانت شاهداً على عودة الشرف وترميم
الثلم، ورمزاً لهذا كله، فبقيت على قيد الحياة دون أن نعرف إنها قتلت.
وفي
العراق، فإن أكثر من خمسة وثلاثين عاماً من القمع الذي طال الجميع، وثلاثة حروب
كبرى خلال ربع قرن، وثلاثة عشر عاماً من الحصار الاقتصادي القاسي، كانت بمثابة
الوباء الكامن في جسد المجتمع العراقي، وباء لن يظهر من خلاله وجه ملكة إسبارطة،
إلا بوصفه تكثيفاً حياً لهذا الوباء الذي يجري اليوم اختزاله بازدياد جرائم الشرف
في المجتمع العراقي الذي لم يركن إلى أسطورته ولا لنظم مدنيته المتعثرة، ولا لدياناته
بل انكفأ إلى أكثر نقطة ظلامية في تاريخه.
وربما
عند هذه النقطة المظلمة بالذات( جرائم الشرف في العراق ) يقف الإعلام الغربي باهتمام، ليشير إلى
تفشي هذه الظاهرة، التي أفردت لها مجلة التايم ( 19 – 26 تموز 2004 ) مقالاً
موسعاً، ليعبر عن تظهير لوقائع موجودة
أصلاً ومتوطنة في ثنايا النسيج الاجتماعي العام، وكأنها بنية قارة لثقافة لا يمكن
زحزحتها بسهولة! وجزء مخيف من بناء المجتمع ونواميسه، لكنها النواميس التي لا تهتز
رغم فظاعتها، ويجري عقلنتها بل وتشريعها، رغم أنها تقوم في أحيان كثيرة على مجرد
الظن ليس إلا.!
بعين
واحدة..
في
الطفولة كنا نقطع بضعة كيلومترات سيراً على الأقدام، لنصل المدرسة، وفي تلك
المسافة التي كانت تبدو لنا مترامية الأطرف ومهجورة، كان ثمة مدافن صغيرة لمجهولي
الهوية، وللأطفال الصغار الذين يقضون دون الحاجة إلى نقلهم إلى مقابر النجف، أو
لعدم القدرة على تحمل تكاليف الدفن الباهظة، في الطريق بين مدينة الثورة ( الصدر
حالياً ) ومنطقة الشماعية حيث المدرسة ومستشفى المجانين المجاور وسجن الإصلاحية
للقاصرين، صادفنا لثلاث مرات في سنة واحدة، أسراباً هائلة من الذباب تحوم حول
منخفض جرت تسميته لاحقاً بوادي الزانيات، حيث أصبح هذا المنخفض الترابي المكان
النموذجي، لإلقاء جثث القتيلات الملفوفة ببطانيات رثة، وعلى بعد أمتار من ذلك
المنخفض، ثمة فردة من حذاء نسائي، وكف مقطوعة، من الرسغ تماماً، وثمة لمعان من بين
الدم المتجمد لخاتم، لا يزال يعطي الأصابع الناعمة سحراً وغموضاً لشخصية الفتاة
التي قطع كفها دلالة على أنها ( ناهبة ) أي هاربة مع عشيق لها واصل الهرب بمفرده
بعد ذلك!
سنعلم
لاحقاً بعد العودة من المدرسة إن الشرطة حضرت إلى مكان الحادث، وإن الأمر يتعلق
بجريمة ( غسل العار ) فيما كان بين التلاميذ من يبدي إعجاباً بشجاعة من قاموا بهذه
الفعلة!
في
المنزل سألت والدتي عن هذا المصطلح الغريب ( غسل العار ) فراحت تروي لي تراثاً مرعباً من القصص الغريبة عن هذا
المصطلح الجديد على ذهن صبي في السابعة!
لكن
بعد هذه الحادثة ببضع سنوات وتحديداً في المرحلة المتوسطة، كان أحد زملائنا في
المدرسة، بطلاً لواحدة من وقائع ( غسل العار )، فالأمر يتعلق بجريمة كان القانون
العراقي يحاسب عليها قبل أكثر من ثلاثين سنة، ولأن القانون نفسه، يسقط جانباً من
تبعات تلك الجريمة عن مرتكبيها
من القاصرين، فإن العوائل ( بعد ان تغسل عارها) عادة ما تستخدم
يد الصغير حقيقة أو مجازاً مشاركاً أو مدعياً المشاركة، كدريئة تتحمل تبعات الحكم
عن تلك الجريمة، إذ لا يقضي الفتى القاصر سوى بضعة أشهر في سجن الإصلاحية ليخرج
بعدها وقد حمل وزر الرجال، ورفع رأس العائلة والعشيرة قليلاً، ثم ما تبرح العائلة
أن تغادر الحي إلى مكان آخر لا يعرف أنها مغتسلة للتو من عار ذي رائحة تتحرك عبر
الأمكنة ولا تنحسر.
والواقع
إن ( العار ) مفردة يعبر جذرها اللغوي عن نوع من العيب، وهي مأخوذة من العور، كما
تؤكد معظم المعاجم، ربما لهذا تقف حدود العقوبة عند طرف واحد دون سواه، المرأة دون
الرجل! فهي العين العوراء في وجه العائلة، أما الرجل فيبقى العين الأخرى التي ترى
وقد تبكي!
كانت
هذه منطقة الأورفلي الواقعة بين ( الثورة والشماعية ) وكذلك منطقة ( خلف السدة )
هي المكان الأمثل لقتل الضحايا من ( الزانيات ) من مختلف مناطق بغداد، لكن هذا لم
يمنع أن تتم واحدة من الجرائم تحت أنظار الجميع، وفي وضح النهار، عندما كان عدد من
رجال العائلة يطاردون شابة في زقاق الحي ببلطاتهم وسكاكينهم وهي تصرخ وتدور كالثور
الهائج بينما تسدد لها الطعنات من كل جانب لتسقط في محيط من الدم وسط بركة حمراء،
تعلن لمن يعرف، ولمن لا يعرف إن الدم غسل (العار ) والشرف الرفيع ظل رفيعاً بفعل
مسارب الدم المتخثر في الزقاق.
لا
يتكفل الزوج عادة بغسل ( العار ) الذي لحقه من الخيانة الزوجية، بل يترك لعائلة
الزوجة هذا العبء، أو هذا الشرف! فيكتفي بدفعها إلى أهلها ليتخلصوا من ( عارهم) من عينهم العوراء ربما!
وبدلاً
من أن تحيل القوانين الوضعية والتشريعات السماوية، المجتمعات إلى درجة أخرى في سلم
المدنية، فإن القوانين والقرارات المتعددة لما يسمى مجلس قيادة الثورة في العراق،
كانت تعيد المجتمع العراقي إلى مسافات بعيدة، في السلم المدني، لتصبح الدولة
برمتها صورة مصغرة عن نموذج العشيرة، بنواميسها وتقاليدها وأحكامها، التي تدحض إلى
حد بعيد حتى ثوابت الإحكام الشرعية في الفقه الإسلامي. ولا يمكن أعفاء الكثير من
رجال الدين من التواطؤ مع السلطة في هذا المجال، من هنا فإن تشريع القانون الخاص
بعدم تجريم المتهم بجريمة شرف، إذا كان الأمر يتعلق بزوجته أو أخته أو أمه أو
ابنته، جعل من الجريمة قضية عائلية داخلية، لا رقابة لأية مؤسسة مدنية عليها! فكان
القانون المعروف بقانون( رقم 111 ) والذي مر كغيره من قرارات مجلس
قيادة الثورة، دون أن ينال شجباً ولا استهجاناً ولا نقداً من قبل المجتمع الدولي،
ومنظماته الأهلية، وتجمعاته الإنسانية والحقوقية ولا حتى أدنى اهتمام يذكر، فدفن
تحت سقف هذا القرار سيء الصيت المئات من الضحايا دون أن يجري تحقيق نزبه وموضوعي
في حقيقة الجرم المرتكب بحق الضحايا. مثلنا دفنت جرائم الزنا بالمحارم تحت سقف
الحفاظ على رفعة الشرف!
لقد
حاول النظام السابق، إحكام دائرة قهر المرأة العراقية عبر خليط غير متجانس،
ومتناقض في أغلب الأحوال من ذرائع دينية مزعومة، وقيم أخلاقية فاسدة، وتركات
عشائرية بائدة، فجاء قرار منع المرأة من السفر إلى خارج العراق إلا بصحبة محرم (
زوج أو أخ أو أب تحديداً ) ليلغي حقاً مدنياً مبدئياً لها، بقرار تمييزي، ستكون
لها عواقب سلبية على طبيعي التجانس المجتمعي في البلد.
ولم
يقف الأمر عند هذا الحد، بل أضحت الدولة نفسها ولي الدم والعار المستحصل من الزنا! فكانت حملات عدي الشهيرة
في خريف العام 2000، ضد النساء المتهمات بممارسة الدعارة، لتحصد رؤوس أكثر من مئتي
امرأة، تحت سيوف ميليشات فدائيي صدام،علقت رؤوسهن على مداخل البنايات عبرة للنساء،
وتعويذة ضد الزنا وتذكرة بالعفة!
يتذكر
العراقيون اليوم إن هؤلاء ( الفدائيين ) الذين بتروا السنة الناس، وجدعوا أنوفهم
وصلموا آذانهم وقطعوا ورؤوسهم وأيديهم وحتى طرقهم، لم يقطعوا الطريق أمام دبابات
المحتلين، بل قطعوه هرباً نحو قراهم تاركين بغداد التي طالما هتفوا باسم شرفها
والدفاع عنه!
بيد
أن هذا التقليد العشائري البربري، لم يكن محكوماً بالشرط البيئي، والمحيط الأهلي،
بل أضحى مترسخاً في النفوس، لينتقل معها بتقليده المقيت إلى بيئة أخرى، ففي دول
أوربا ثمة قصص كثيرة صارت مادة روائية لكتابات متعددة الجنسيات عن جرائم غسل (
العار المتنقل ) فقد كان ثمة ريادة لأول جرائم الشرف في البلدان الاسكندنافية.
هكذا
هو حال المرأة في العراق يوم دخلته دبابات الماينز، بعد سنوات الحصار ولكن ليس
بحثاً عن هيلين هذه المرة.
ماجدات العهد
البائد وماجدات العهد الحالي
فخلال
التسعينات نزلت المرأة العراقية إلى ليل الأرصفة ، وليس بينهن بالتأكيد ( ماجدات
صدام ) بل ( الخايبات ) من
العراقيات، مناوبات ليلية في المستشفيات، وآذانات في الدوائر، بائعات للشاي
والمياه في شارع الليل العراقي
الطويل، في كراجات النهضة والعلاوي، وهما كراجا المنطقتين الشمالية والجنوبية من
العراق الموزعان على رصافة بغداد وكرخها، حيث لا يسافر إلا الجنود لجبهات الحروب،
ليلاً فليلاً، صارت الطبقة الفقيرة هي المادة الأساسية لعالمي البغاء المتواتر
والزنا العابر، أمهات في متوسط العمر، وصبايا في مقتبله، تدفعهن الحاجة أكثر من
طلب اللذة للممارسة هذه المهن المزدوجة، بيد أن نماذج أخرى للمرأة العراقية كن
ضحايا من نوع آخر، مجرد قصة حب، أو رؤيتها تصحب شخصاً غريباً في الشارع، أو حتى
وشاية لكاره أو عاشق مرفوض، ستكون دليلاً لن يرقى إليه الشك بسهولة عن تحقق واقعة
الزنا.
وفي
منتدى حوار في الأعظمية وفي مقهى الشابندر في شارع المتنبي، كانت ( ينار محمد )
العائدة إلى بغداد من المنفى الغربي، وإحدى الناشطات في مجال حرية المرأة، تطلق
الآراء ضد الاحتلال الأمريكي للعراق، وضد الرجال الذين ينتهكون حياة المرأة
وحريتها على حد سواء، كانت آراؤها في الجانب الثاني لا تخلو من راديكالية واضحة، يتبناها الحزب الذي
تنتمي إليه ( الحزب الشيوعي العمالي) خاصة ما يتعلق بحرية المرأة في المساكنة
واختيار الشريك الجنسي، وعندما نبهتها بشكل عابر في المقهى، إلى أن ما تحتاجه
المرأة العراقية، في هذه المرحلة هو أقل من ذلك بكثير وخطوة على الطريق، وإن
الطموح لا يعدو عن كونه شعاراً في هذه المرحلة، فهي تقتل على الظن وليس على الفعل،
أكدت، بكلام عابر أيضاً، إنها تكافح من اجل الشعار.
بعد
بضعة أسابيع، تلقت ينار محمد تهديداً بالقتل من أحدى المنظمات الأصولية التي
اعتبرتها مرتدة عن الإسلام ودعتها للتوبة، رغم إنها لم تبد سوى رأي، لكنه رأي، كان
كفيلاً بان يجعل تلك المنظمة تنتفض غضباً ووعيداً ضد السيدة، أكثر من انتفاضها ضد
المحتل!
لا
أدري إذا ما عادت ينار محمد إلى منفاها الغربي بعد ذلك التهديد، لكن الأغلب إن (
سيوف الشرف ) قد أكلت من لحم بنات جنسها الكثير منذ ذلك الوقت، مثلما أكلت منه
نيران المحتلين وأنياب المغتصبين على الجهتين!
النخاسة
والدناسة
مع
انهيار البنى المؤسساتية للدولة عقب الاحتلال الأمريكي للعراق، بدأت الكثير من
البنى الاجتماعية المحملة بأرضة الانهيار والآيلة للزوال أصلاً، تذهب إلى انهيارها
هي الأخرى متماثلة ومنسجمة مع تقوض البنى المؤسساتية، ثمة إحصائيات أولية نشرتها
تقارير لمنظمات أهلية عراقية تشير إلى أن هناك المئات من الفتيات العراقيات خطفن
أو جرى بيعهن في أسواق النخاسة التي بدأت تزدهر، وجرى تصدير العشرات منهن إلى دول
مجاورة، لقاء مبالغ لا تتجاوز في كثير من الأحيان الخمسمائة دولار، الكثير من
الفتيات اللواتي كن تواقات للهرب من جحيم الرعب والقهر والفقر، لم يترددن كثيراً
في قبول أية إشارة عابرة من شاب أو كهل، يعدهن بعبور الحدود نحو عالم جديد! لكن
الأكثر منهن وجدن أنفسهن بعد فترة وحيدات أمام سراب الوعد فصرن بين نارين: نار
العودة إلى العائلة التي أعدت حفلة الشرف الدامية، ونار البقاء في عالم غريب وجدن
أنفسهن فيه وقد تحولن إلى جوار وبضائع كثر عرضها وكثر طلبها كذلك!
الكثيرات
فضلن الانتقال إلى محافظات أخرى، ليتوارين عن أنظار الأسرة والعشيرة، بيد أنه بعد
عام من الاحتلال ومع اعتياد الناس على الواقع الجديد، سيرت العديد من العشائر فرقة
كشافتها للبحث عن هيلين الضائعة، ولكن ليس من أجل عودتها وإحراق المدن التي هربت
إليها بل لاستدراجها وقتلها بعلانية تحفظ رفعة الشرف!
وفي
مجتمع تصل فيه نسبة الإناث إلى الذكور لأكثر من ستين بالمائة، فإن الأقلية
الذكورية لن تستطيع أن تقود الأكثرية الأنثوية إلا تحت ظلال سيوف الشرف.
فالعراق
بلد الأرامل والعوانس، بفعل الحروب والهروب الجماعي بين الشباب من الذكور فيما لم
يكن الأمر كذلك بالنسبة للإناث.
ولأن
( العار ) قد لا تفضحه غالباً، إلا
نمو البذرة العابرة في أحشاء الضحية، فإن ظاهرة جديدة بدأت تستشري في المدن
العراقية، وهي ظاهرة العيادات السرية لحالات الإجهاض غير القانوني، التي راحت تنمو
متوازية مع تفشي ظاهرة القتل بسبب العلاقات الجنسية خارج السقف الشرعي، ربما لتضيف
أضحية جديدة في السلم الانتقائي لطبيعة الجريمة.
ويشكل
غياب الأمن واحدة من الأسباب، التي أسهمت في تفشي ظواهر الاختطاف والإغتصاب
الجنسي، في العديد من مدن العراق، ومع هذا فإن نشيد الشرف سيفجر الدم في العروق
مرة أخرى ليس باتجاه المغتصب، بل باتجاه الضحية، وثمة العشرات من هذه الحالات يجري
فيها طمس الرقم الصعب في المعادلة فيما ينوب الرقم الآخر السهل عن طرفيها.
ومع
أن ثمة حالات من الاغتصاب الداخلي في الأسرة أو زنا المحارم، إلا أن المرأة هي في
العادة من يدفع الثمن دون الطرف الآخر.
وبينما
يعد الزنا في الشريعة الإسلامية واحداً من الأبواب الخطيرة في الفقه الإسلامي
لتعلقه بالحدود الإلهية، فإن ثمة محددات لا تقل خطورة قد وضعت قبل تنفيذ الأحكام
الشرعية، وعلى قاعدة إدرأوا الحدود بالشبهات فإن ( عقوبة الزنا ) فرقت بين فعل (
الخيانة الزوجية) وفعل ( الخطيئة
) بحدود جرى تمييزها بالمحصن
والمحصنة ( المتزوج وغير المتزوجة )
وغير المحصن، لكنها لم تفرق بين زنا الرجل وزنا المرأة بيد أن الأعراف العشائرية
أحدثت هذا الخرق ليس في بنية الشريعة فحسب، بل في بنية المجتمع وطبيعة الجريمة
نفسها!
فثمة
أحاديث متواترة عن رجل جاء إلى الرسول محمد وقال له: لقد زنيت، وأنا استحق الحد
الذي جاء في الكتاب، فأعرض عنه الرسول لأكثر من ثلاث مرات كأنه لم يسمعه، فألح
عليه الرجل من كل الجهات وأمام الناس، وعندما أقيم عليه الحد بعد ذلك، ذكر بعضهم
إنه كان يتألم وحاول الفرار من الرجم، فوبخهم الرسول ( هلا تركتموه لعله يتوب
فيتوب عليه، يا هذا ويا هذان لو سترته بثوبك كان خيراً)
وفي
صورة لافتة من ( تراث الرجم ) إن رجلاً زنى بامرأة فأقيم عليهما حد الرجم معاً،
فكان يتلقى الحجارة عن صاحبته، ويقيها بنفسه حتى مات قبلها!
فإذا
كان الزنا واقعة مشتركة، فإن العقوبة لا تكون كذلك في جرائم الشرف، فمن أين تسلل
هذا الامتياز الذكوري الذي يتجاوز حتى حق الدين نفسه! يعمل الرجل في النخاسة بينما
تدفع النساء ضريبة الدناسة!
الواضح
إن الأمكنة المنقطعة بعيداً عن النظم المدنية، والمنعزلة عن التواصل الاجتماعي،
كانت الحاضنة الرئيسية لهذا التقليد المتوحش، وقد انتقلت إلى المدن العراقية بشكل
مكثف خلال السبعينات، لتبلغ ذروتها في التسعينات، مما يستدعي فحص الجوانب الأخرى
التي يجري الحديث عنها كثيراً دون تشخيصها مباشرة، واقصد الآثار الجانبية للحروب
وما تخلفه من عنف بشري يستشري ليصبح تقليداً معتاداً.
وإذا
كانت الحرب والحصار الذي دام عشر سنوات لاستعادة هيلين الهاربة أو المختطفة، قد
جعلت منها قيمة رمزية للأرث والجمال المستعاد، فإن حروب العراق وحصارها، جعلت من
عشتار ليس بغياً مقدساً في مضاجع الآلهة، بل ضحية دامية على مذبح الدناسة، بقيم ما
أنزل الله بها من سلطان بل رعتها شياطين الحروب والكوارث والأوبئة النفسية
المتراكمة عبر الأزمنة.
والواقع
إن ممارسة الدعارة في العراق، تفشت بصورة واضحة خلال سنوات التسعينات متزامنة مع
ما سمي الحملة الإيمانية التي أطلقها صدام، كوجه آخر لواقع اجتماعي أفرزته سنوات
الحصار.
فالواقع
الاجتماعي لم يحصن الأسرة، بل لم يشكلها كمؤسسة نوعية، فلم تسفر تلك الفترة إلا عن
زيجات قليلة، أكثرها غير متكافئة وينقصها الاختيار، في مجتمع بدأت دائرة تواصله
بالانغلاق عبر أكثر من ثلاثة عقود بعد أن كان قبل أكثر من نصف قرن نموذجاً
للانفتاح الاجتماعي المتوازن في المنطقة.
الاغتصاب
الآخر
لم
يعد الاغتصاب اغتصاباً داخلياً، فحسب، بل ثمة تقارير نقلت لي جانباً منها سيدة
عراقية تعمل في مركز رصد الاحتلال ببغداد، عن إن العديد من السجينات لأسباب أمنية
في المعتقلات التي تديرها القوات الأمريكية في العراق قد تعرضن لعمليات اغتصاب،
وإن ما ظهر من هذه الحالات لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من واقع الأمر ذلك إن التكتم
على مثل هذه الوقائع هو الراجح لأن
مجرد إعلانها يعني إعلان وفاة الضحية دون سواها، وثمة تقارير أخرى عن أن إحدى
السيدات التي جرى اعتقالها في سجن أبي غريب، قد هربت رسائل سرية إلى عشيرتها
تدعوهم إلى قصف سجن أبي غريب بالذي فيه لقتلها خلاصاً من عار الاغتصاب!
هذا
النوع من الاغتصاب لا يعلن الكثير منه، فثمة سجينات قتلن بعد فترة قصيرة مكن
إطلاقهن لأنهن حملن من مغتصبيهن في السجون، سواء من الشرطة العسكرية الأمريكية أو
حتى من المحققين العراقيين أو الذين يتكلمون العربية.
ربما
ستصبح رواية الفرنسي يان غيفليك ( العرس الوحشي ) مرجعية أدبية وتأويلية لدى
العراقيين في هذه المرحلة، وسيعاد اكتشافها من جديد، فهذه الرواية التي صدرت
ترجمتها العربية عن دار المأمون بغداد أواسط الثمانينات تتحدث عن جندي أمريكي في
إحدى الوحدات التي كانت تخدم في فرنسا، وقبل أن تغادر وحدته عائدة إلى الوطن بيوم
بواحد، اصطحب صديقته الصغيرة في رحلة توديعية، لكنه مال بعربته العسكرية نحو مكان
منعزل ينتظره فيه إثنان من زملائه في الوحدة، ليجري اغتصاب الصبية من الجنود
الثلاثة الذين يغادرون فرنسا مباشرة، تاركين بذرة ملعونة وغريبة وملتبسة في أحشاء
الصبية الشقراء، لكن محاولات التخلص من الجنين لم تفلح حتى يأتي المولود دون أن
تعرف حتى الأم من هو أبوه من بين المغتصبين الثلاثة! حيث تتأمل الأم صورته فلا
تفلح في نسبته! وتحاول قتله مرات عدة دون أن تنجح فتعامله بقسوة مفرطة ليعيش
فصامياً معزولا ومشرداً، لتنتهي الرواية بان يقوم الابن بقتل والدته خنقاً في
البحر كطريقة وحيدة لمعاتقها للمرة الأولى والأخيرة!
وربما
سيخلف الاحتلال الأمريكي أدباً روائياً مماثلاً قد ينطوي على بنى حكائية أكثر
إثارة من العرس الوحشي لغيفليك.
عشرات
النساء قتلن خلال عام واحد من الاحتلال، اختلطت مبررات قتلهن وتداخلت فيها دوافع
الشرف الوطني، بحمية الثأر للشرف الشخصي، و( غسل العار ) الذي لحق بالأسرة، عاملات
في التنظيف وطباخات في الثكنات العسكرية ومترجمات، نساء مسنات وشابات متعلمات قتلن
في حمى الالتباس هذه.
وعندما
داعبت المجندة الامريكية ليندي إينغلاند، أعضاء الرجال العراقيين في سجن أبي غريب،
وأجبرتهم على الاستمناء أمامها، كان الأمر يتعلق، بأداء واجب بالنسبة لها، وبسوء
معاملة من السجان ضد سجينه بالنسبة للأخلاق الأمريكية، لكن عدداً من السجينات
العراقيات، اللواتي أطلق سراحهن ذهبن فوراً إلى المسلخة بإرادتهن أحياناً، ليستجبن لقانون ( العار )،
ويغتسلن في حمامه الدموي.
ثمة
قراءات متعددة الطبقات لظهور مثل هذه الجرائم على السطح فالقوانين اليوم شبه معطلة
في العراق، والاحتلال أوجد مساحة
واسعة للتنفيس عن طبقات العنف المتلاطمة الموج في أعماق المقهورين، مثلما أوجد
غياب الدكتاتورية مسافة لم تنضج بعد لحرية شخصية تتلخص اليوم في صورها الأبشع:
الفوضى!
لن
يكون توفر السلاح إلا نوعاً من نوافل التعليل فيما يتعلق بتفسير ظاهرة ازدياد
جرائم الشرف و ( غسل العار ) في عراق اليوم، فالذبح والقطع هي العقيدة الفلولكورية
الملازمة لمثل هذه الجرائم، والسيف والسكين والطبر، هي الأسلحة التقليدية لتأصيل
تلك العقيدة، لكن يمكننا فقط أن نضيف إن جرائم الشرف وقد استفادت من توفر الأسلحة
النارية بكثافة، فأنها جعلت من الأمر يبدو وكأنه جزء من الحرب الملتبسة والمتعددة
الوجوه في العراق، بعد أن كانت مجرد نزوع شخصي يسعى إلى التخفي، والممارسة السرية،
ربما جعلت الحرب من ضحايا هذه الجرائم جزءاً من طبيعتها الدموية، فالحروب لا تقف
عند دوافع بعينها، ولا تتجه نحو هدف محدد وواحد، لكنها مناسبة دموية لشتى الغرائز،
تريد الحرب أن تتخلص من فحولتها الطاغية والمتوحشة، إلى توحش من نوع آخر تتدخل فيه
الأنثى عنصراً في المحرقة، ويأتي مفهوم ( الشرف ) ليصبح موسماً نموذجياً لتلك
المحرقة.
وما بين راديكالية الشرف الوطني وحمية الشرف العائلي، تتزايد أعداد النساء المقتولات بجريرة مركبة هذه المرة، فالعشائرية والأصولية وحتى الثورية، تتسابق لتبرير الجريمة، مرة بالزنا والخطيئة، وأخرى بممارسة الدعارة، وثالثة بتهمة التعاون مع المحتل، أو لتاريخها كوكيلة أمنية لدى أجهزة النظام السابق، وتبقى الكف المقطوعة من الرسغ، أو السبابة المبتورة علامة ملتبسة وناقصة على جريمة عنوانها الشرف.