كواكب في سماء
النهرين
الشهيدة الاديبة آمنة الصدر (بنت الهدى)..
عائشة السامرائي ـ بغداد
ولدت السيدة (آمنة بنت آية
الله السيد حيدر الصدر) (بنت الهدى) عام 1356هــ 1937م في مدينة الكاظمية، في بيت
عريق في العلم والجهاد والتقوى. وهي اخت الشهيد المفكر المعروف (محمد باقر الصدر)
وكانت أصغر شقيقيها واختهما الوحيدة.
ولم يختلف حالها عن حال باقي
أسرتها في مكابدة الفقر والحرمان، وتحمل الصعاب والمشاق، بروح غمرها الإيمان
والقناعة بأدنى ضروريات الحياة. لم تر (بنت الهدى) أباها و لا تتذكره وكأنها ولدت
يتيمة، إلا أن الله عز وجل عوضها عن ذلك بأخويها المرحوم السيد (إسماعيل الصدر)
والسيد (محمد باقرالصدر)، فقد أغدقا عليها حناناً ومحبة تفوق ما يتوقع اليتامى.
تعلمت (بنت الهدى)
القراءة والكتابة في البيت على يد والدتها، فكانت الأم هي المعلم الأول، وكانت
والدتها تثني على ابنتها وقدرتها على التعلم و الاستيعاب والفهم، ثم استكملت مراحل
تعليمها القراءة والكتابة على يد أخويها، وشمل ذلك علوم العربية في أكثر جوانبها،
حتى تمكنت من كتابة الشعر في السنوات المبكرة من عمرها. وكانت ـ حريصة على
تثقيف نفسها ثقافة إسلامية رفيعة، سواء في مراحل حياتها الأولى أو فترة ما قبل
الاستشهاد. فتمكنت من توسيع أفق ثقافتها توسعاً شاملاً متعدد الأبعاد،
وكتاباتها في مجلة الأضواء في تلك الفترة (1966) تعكس لنا جوانب من تلك الأبعاد،
ذلك أن مجلة الأضواء التي كانت تصدرها جماعة العلماء في النجف الأشرف لم تكن منبراً
إلا للنتاجات المتميزة فقط، وكانت بنت الهدى من أبرز من كتب فيها بل كانت الرائدة الأولى في الكتابة و
التأليف.
وكانت السيدة بينت الهدى على
علاقة وطيدة مع اخيها السيد محمد باقر وزوجته السيدة(ام جعفر).
وكانت تشارك اخيها في الكثير
من مهماته الاجتماعية والثقافية والسياسية، مثل التدريس أو إقامة ندوات، أو
الاشراف مباشر على عدة مدارس دينية أو غير ذلك. وكانت ايضا حاضرة في استقبال
الضيوف من النساء، والاهتمام بتلبية حاجاتهن الفقهية والفكرية، والمساهمة في حل
مشاكلهن العائلية والزوجية. كذلك كان لها دورها في تربية بنات اخيها تربية لائقة
وصحيحة. ثم دورها في خدمة والدتها التي كانت بحاجة إلى المزيد من العناية
والاهتمام بسبب كبر العمر ولما تعاني من أمراض متعددة. كان للسيدة الشهيدة
دور كبير في الربط بين اخيها المفكر المناضل وبين القطاعات النسائية، فكانت تنقل
بأمانة ما يعرض للنساء من مسائل فقهية قد يترددن بسبب الحياء من توجيهها إلى السيد
الصدر مباشرة، تعينها في ذلك بعض الأحيان زوجة اخيها السيدة (ام جعفر).
كانت الشهيدة تذهب إلى الحج
كمرشدة دينية في "الحملات" التي تذهب إلى الحج من بغداد أو الكاظمية،
تعلم النساء مسائل الحج وأحكامه فكانت من الناحية الفقهية محيطة بفتاوى العديد من
المراجع، وكانت تجيب كل حاجّة على وفق من تقلد من المجتهدين، وقد يحدث أن تقع
مسائل نادرة وغير موجودة في الرسائل العملية للفقهاء وفي هذا الفرض كانت تتصل
هاتفياً بالسيد الشهيد الصدر ــ رحمه الله ـ لتتلقى منه الحكم الشرعي. وإلى جانب
ذلك كانت تسعى إلى التعرف على أوضاع المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وتنشر
الثقافة الإسلامية الصحيحة بما يناسب الأوضاع حينها.
الشهيد الامام المفكر (محمد باقر الصدر)
(قد) الشقيق الاكبر للشهيدة
نشاطاتها الثقافية
تعتبر السيدة الشهيدة
بنت الهدى من المؤسسين أو المساهين في إنشاء مدارس الزهراء (ع) في بغداد والكاظمية
والنجف ــ وكان ذلك في عام 1967م ــ ولم يكن الهدف منها سد حاجة المجتمع من
المدارس الإبتدائية والثانوية فإن المدارس الحكومية كانت كافية لاستيعاب كل ما هو
موجود من طالبات، وإنما كانت هناك ضرورات اقتضت إنشاء هذه المدارس، منها مواجهة
الثقافات المادية التي تدعو إلى التحلل والانحراف والتردي الأخلاقي.
لقد استحصلت السيدة
الموافقة على إنشاء هذه المدارس واعتمدت نفس المواد الدراسية في المدارس الحكومية،
سواء في الابتدائية أو الثانوية، لكي لا يعيق ذلك الطالبات من مواصلة دراستهن بعد
إنهاء الدراسة في مدارس الزهراء (ع)، وأضيف إلى ذلك عدة مواد منها دروس في العقيدة
والتربية الإسلامية بشكل مكثف ورصين. لقد لعبت دور المشرف والموجه لهذه المدارس
حيث كانت تأتي ثلاثة أيام في الأسبوع فيما كانت الأيام الأخرى تقضيها في مراكز
التعليم في النجف الأشرف... ولقد أثمرت جهود الشهيدة بنت الهدى فكان نتاجاً طيباً
مباركاً رغم قلة الامكانات، ورغم المضايقات الأمنية والسياسية والإجتماعية، إذ
هنالك الكثير من خريجات مدارس الزهراء موجودات في العراق والخليج وحتى في اوربا.
وإلى جانب التدريس نظمت
الشهيدة ندوات ثقافية دينية عامة تطرح فيها الأفكار الإسلامية بأساليب تنسجم مع
متطلبات العصر ومقتضياته، وقد نالت ندواتها نجاحاً منقطع النضير، وإقبالاً من
مختلف الطبقات النسوية.
وتعتبر السيدة بنت الهدى اول
اديبة مبدعة ضمن نطاق الحيز الديني، فهي
وهي تعتبر رائدة، لأننا لم نعهد في النجف ــ بالرغم من أنها تضم الحوزة
العلمية والمرجعية الدينية ــ كاتبة إسلامية سبقت الشهيدة بنت الهدى في هذا المجال.
وهي مع ذلك كانت
متواضعة بسيطة لم تستهدف الشهرة والظهور، وما يؤيد هذه الحقيقة إن الشهيدة السعيدة
آمنة الصدر اختارت اسماً لها هو ما نعرفه بها (بنت الهدى)، رغم انه لم يكن هناك
ضير في كتابة اسمها الحقيقي لا شرعاً ولا عرفاً. كما لم يكن ذلك بسبب الظروف
الأمنية لأن (جهاز مراقبة المطبوعات) في العراق لا يتعرف إلا بالاسم الحقيقي
لإصدار إجازة الطبع، والسبب فقط هو نكرانها لذاتها وعزوفها عن الشهرة. ولقد بدأت
الشهيدة كما قلنا سابقاً الكتابة في مجلة الأضواء التي تصدرها جماعة العلماء،
وكذلك في مجلة الإيمان التي أصدرها المرحوم الشيخ موسى اليعقوبي.
مرقد الامام الكاظم(ع) بقربه ولدت الاديبة
مؤلفات الشهيدة بنت الهدى:
1 ــ الفيلة تنتصر.2 ــ
الخالة الضائعة.3 ــ امراتان ورجل.4 ــ صراع.5 ــ لقاء في المستشفى6ـ مذكرات
الحج.7 ــ ليتني كنت أعلم.8 ــ بطولات المرأة المسلمة.9 ــ كلمة ودعوة.10 ــ
الباحثة عن الحقيقة.11 ــ المرأة مع النبي.
ولها مؤلفات أخرى
مخطوطة صادرتها السلطة الحاكمة في العراق عند مصادرتها لمحتويات بيت السيد الصدر
ــ رضوان الله عليه ــ بعد استشهاده وقد يكون بعضها محفوظاً.
صورتها قبل استشهادها
كفاحها واستشهادها
بدأت مسيرة المواجهة
الجهادية للسيدة آمنة منذ الاعتقال الأول لاخيها (السيد محمد باقر) عام 1971م
(1392) هــ. ثم جاءت انتفاضة صفر عام 1977م (1397)هــ فتعرض السيد الشهيد
للاعتقال، وكانت تلك الأيام من الأيام العصيبة في تاريخ النجف حيث عم الخوف والرعب
كل مكان. عندما خرج من معتقله وكان بصحبته مع مدير أمن النجف، سبقتهما هي إلى حيث
تقف السيارة وخطبت في الجموع منددة بجلاوزة النظام وما يفعلونه صارخة ومرحبة
بالموت إذا كان في سبيل الله.
وفي صباح يوم السابع
عشر من رجب 1399هــ (1979)م، تم إعتقال اخيها فقامت هي بنت بالذهاب إلى حرم الإمام
أمير المؤمنين بالنجف الأشرف ونادت بأعلى صوتها:
"الظليمة الظليمة
يا جداه يا أمير المؤمنين لقد اعتقلوا ولدك الصدر.. يا جداه يا أمير المؤمنين، إني
أشكوا إلى الله وإليك ما يجري علينا من ظلم واضطهاد"
ثم خاطبت الحاضرين فقالت:
"أيها الشرفاء المؤمنون،
هل تسكتون وقد اعتقل مرجعكم، هل تسكتون وإمامكم يسجن ويعذب؟ ماذا ستقولون إذاً
لجدي أمير المؤمنين إن سألكم عن سكوتكم وتخاذلكم ؟ اخرجوا وتظاهروا
واحتجوا.."
وبعد لحظات نظمت تظاهرة
انطلقت من حرم الإمام علي (ع) ساهمت فيها المرأة مع الرجل، وأدت إلى إجبار السلطة
على الافراج عن السيد الشهيد الصدر. وكان من أثر هذه التظاهرة أن أفرج عن السيد
بعد ساعات قليلة من اعتقاله.
في مساء يوم التاسع من
نيسان عام 1980 م وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساءً، قطعت السلطة التيار
الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف. وفي ظلام الليل الدامس تسللت مجموعة من قوات
الأمن إلى دار المرحوم الحجة السيد محمد صادق الصدر ــ رحمه الله ــ فطلبوا منه
الحضور إلى بناية محافظة النجف، وهناك سلّموه جنازة السيد الشهيد وأخته الطاهرة
بنت الهدى، وحذروه من الإخبار عن شهادة بنت الهدى، ثم أخذوه إلى مقبرة وادي السلام
ووارهما الثرى.
حسب عدة مصادر روت كيف تم
استشهادها مع اخيها:
"احضروا السيد
الصدر إلى مديرية الأمن العامة فقاموا بتقييده بالحديد، ثم جاء المجرم صدام، فقال
باللهجة العامية: (ولك محمد باقر تريد تسوي حكومة)، ثم أخذ يهشم رأسه ووجهه بسوط
بلاستيكي صلب.
فقال له السيد الصدر:
(أنا تارك الحكومات إلكم). وحدث جدال بينهما عن هذا الموضوع وعن علاقته بالثورة
الإسلامية في إيران، مما أثار المجرم صدام فأمر جلاوزته بتعذيب السيد الصدر
تعذيباً قاسياً. ثم أمر بجلب الشهيدة بنت الهدى ــ ويبدو أنها كانت قد عذبت في
غرفة أخرى ــ جاءوا بها فاقدة الوعي يجرونها جراً، فلما رأها السيد استشاط غضباً
ورقّ لحالها ووضعها. فقال لصدام: إذا كنت رجلاً ففك قيودي. فأخذ المجرم سوطاً وأخذ
يضرب العلوية الشهيدة وهي لا تشعر بشيء. ثم أمر بقطع ثدييها مما جعل السيد في حالة
من الغضب، فقال لصدام (لو كنت رجلاً فجابهني وجهاً لوجه ودع أختي، ولكنك جبان وأنت
بين حمايتك)، فغضب الدكتاتور وأخرج مسدسه فأطلق النار عليه ثم على أخته الشهيدة
وخرج كالمجنون يسب ويشتم".
ذهبت بنت الهدى وبقي
دمها في أعناق الجميع أمانة ما أثقلها في ميزان حساب الأمم عند الله تعالى وعند
التاريخ. سلام على بنت الهدى يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حية.
ـــــــــــــــــ