شيرين
الميسانية..
امبراطورة ساسان..
أميرة عيدان / كلية الآداب / جامعة بغداد
على الرغم من الدور الكبير
الذي لعبته (شيرين)* في حياة
واحد من أعظم وأقوى ملوك الدولة الساسانية وهو كسرى الثاني(خسرو)، ولقبه ( أبرويز
ـ المظفر)، إلا ان قصتها الحقيقية تظل مبهمة ومحاطة بالاساطير.
من هذه المرأة التي وصفت بكونها أحدى العجائب التي عدت
ضمن عجائب كسرى الأثنتي عشر، لقد كان كسرى الثاني وبلاطه الزاخر بالأبهة والروايات
الكثيرة التي تصف عجائبه. كانت (شيرين) من المواضيع المحببة للكتاب المسلمين
والعراقيين، مثل البلعمي والطبري والثعالبي، كثيرا عن هذه الملكة واعتبروها من
الاعاجيب. وقد عددوا أثنتا عشرة عجيبة لكسرى من بينها قصر
المدائن ودرفش كاويان وزوجته(شيرين).
(شيرين)هي بطلة
الحكاية الاسطورية الشهيرة(شيرين وفرهاد) او (خسرو وشيرين). لا زالت هنالك خرائب
على الحدود بين العراق( خانقين) وايران، وهي بقايا قصر اسمه( قصر شيرين) وتحمل هذه
المدينة اسمه. وهو القصر الذي بنته هذه الملكة، لتمضي فيه الصيف ليس بعيدا عن
اهلها وناسها في ارض النهرين.
(قصر شيرين)
عند الحدود العراقية الايرانية، وقد كانت هذه المنطقة تاريخيا وجغرافيا
جزءا من بلاد النهرين، وفي زمن العباسيين جزءا من
منطقة (حلوان) العراقية
وقد اتفق المؤرخون جميعهم على انها آرامية
مسيحية. اما بالنسبة لاصل موطنها، فهنالك اقلية من المؤخرين قالو بأصلها الاحوازي،
بينما الاغلبية اتفقوا على اصلها العراقي وانها من منطقة(ميشان) أي ( ميسان).*
أما عن علاقة (ميسان) بالملوك الساسانيين فالتاريخ يخبرنا إن
أحد ملوك الدولة الساسانية وهو أردشير سار بعد أن تغلب على خصومه في إيران لقتال
ملك الأحواز فغلبه في معركة حاسمة واستولى على ولايته ثم سار نحو( ميسان) واستولى
عليها ومنذ ذلك الوقت أصبحت تابعة لحكم الدولة الساسانية.
وتؤكد المصادر على
أن (شيرين) رغم زواجها بأمبراطور ايران، إلا انها فضلت دائما السكن في بلادها العراق، وبالذات في
(المدائن) على ضفاف دجلة. بل انها اجبرت زوجها على السكن في هذه المدينة، رغم انه
كان متشائما منها لأن المنجمين قالوا له انه سوف يقتل فيها، لكنه خضع لارادة
زوجته، حتى تحققت النبؤة وتم قتله في (المدائن) على يد ابنه.
ان صعود إمرأة
عراقية الى الامبراطورية الساسانية، لم يكن حالة فردية وصدفة عابرة، بل كان تعبيرا
عن حالة الصعود الشامل للعراقيين في جميع المجالات السياسية والدينية والثقافية.
هنالك ادلة عديدة على ذلك، منها مثلا، انه كان هنالك عاصمتان لهذه الامبراطورية،
واحدة صيفية في ايران هي (سوسة)، ثم عاصمة شتوية في العراق هي(المدائن) جنوب
بغداد، وهذا دليل على مدى اهمية العراق في هذه الامبراطورية المترمية الاطراف حتى
حدود الصين. ثم ان من بين الرموز العراقية المهمة في تلك الفترة،( يزيدن) وهو
مسيحي عراقي من (كرخا سلوقياـ كركوك)، والذي اصبح مساعدا لكسرى وشخصية متنفذة في
الامبراطورية، ولكن الملك امر بقتله فيما بعد وصادر امواله.
كذلك من من دلائل
تنامي دور العراقيين بروز اهمية (امارة المناذرة) في الحيرة وزعيمها المعروف (
الملك النعمان بن المنذر)( بالحقيقة ان تسمية ملك، لا تنعني ابدا انه كان ملكا، بل
هي بالآرامي تعني امير)، وقد قتل هذا الامير ايضا على يد كسرى.
تبدأ القصة
الحقيقية لهذا الملك، عندما كان شابا فهرب الى اعدائه البيزنط بعد مقتل ابيه على
يد احد قواده. رحبه به امبراطور البيزنط وزوجه احدى الاميرات (ماريا)، وبمساعدته
تمكن ان يسترد عرش أبيه. لهذا قد اصبح نصيرا للمسيحيين في العراق بتأثير زوجتيه
المسيحتين،العراقية (شيرين) والبيزنطية(ماريا). لكن هذا لم يمنعه فيما بعد من
إضطهاد المسيحيين العراقيين، وشن حربا شعواء ضد البيزنط واجتياحه لامبراطوريتهم.
يقال ان كسرى كان
يعيش ببذخ ومجون، بحيث ان كان يمتلك حريم من (3000) إمرأة. كان زير نساء وكان يرسل
موظفيه الى المقاطعات ليختاروا به
نوعا معينا من النساء، حسب مواصفته وذوقه!
لكن رغم ذلك، فأن (شيرين) ظلت دائما سيدة قلبه وسطانة
روحه، ولها الكلمة الخاتمة في حياته، بحيث يقال انها كانت هي بنفسها تختار المرأة
التي يجب ان يمضي معها ليلته. لقد
كانت قصة عشق (كسرى) لـ (شيرين)
موضوعا للعديد من الروايات وقد ألفت العديد من القصص حولهم وخاصة قبل سقوط الدولة
الساسانية حيث وجدت أكثر من قصة شعبية عن هذا الموضوع ودخلت هذه الروايات في
المؤلفات العربية حيث حفظ كل من الثعالبي والفردوسي العديد من الروايات عن (شيرين)
وأساليبها الذكية للاستئثار بكسرى وزواجه منها والطريقة البارعة التي أستطاع بها
كسرى من إسكات عظماء الدولة الذين كانوا ساخطين على زواجه منها لأنها من بلد كان
تابعا للدولة الساسانية ولم تكن من دماء ملكية. كذلك ذكر البلعمي قصة( فرهاد
وشيرين) وكان فرهاد عاشقا لهذه المرأة وقد عاقبه كسرى بأن أرسله لقطع الحجارة في
بهستون وقد شغل فرهاد نفسه بهذا العمل إلى حد أن كل قطعة يحطمها من الجبل كانت من
الضخامة بحيث أن مئة رجل لا يستطيعون حملها، وقد
أصبحت حوادث عشق (خسرو وشيرين) و(فرهاد وشيرين) موضوعا محببا في
الشعر الغرامي والحماسي. مما تجدر الإشارة إليه أن بعض الروايات الخاصة بهذا
الموضوع مزجت الحقيقة بالأسطورة وبعضها بالغت بالشكل الأسطوري البعيد عن الحقائق
ولعل من أفضل النصوص عن هذا الموضوع هو (خسرو وشيرين ) للأديب الحكيم نظامي كنجوي
الذي يسرد فيه قصتهما بأسلوب شعري. يعد هذا الكتاب من روائع الأدب الفارسي أشتمل
على ستة ألاف وخمس مئة بيتا شعريا. قام عبد المحمد آيتي باختصار هذه القصة ونشرها
في طهران في سبعينات القرن الماضي، وهي النسخة التي ترجمت إلى العربية. لم تكن قصة
(كسرى وشيرين) مصدر للأدب والشعر فقط بل كانت موضوعا فنيا شائعا في تلك الفترة،
فغالبا ما زينت التحف الزجاجية وكذلك النرجيلات والقوارير ذات الرقاب الطويلة
بالمناظر الشاعرية وكان منظر خسرو وهو يستقبل حبيبته(شيرين) من أكثر المواضيع التي
نراها مجسمة على هذه القطع الفنية. نعود الآن إلى كتاب (خسرو وشيرين) لللشاعر
نظامي، وقد أتم هذا الكاتب مؤلفه سنة 576 هـ (1180م) وأهداه إلى جيهان بهلوان حاكم
أذربيجان (582هـ) وقد قلد كثير من الشعراء قصة (خسرو وشيرين) وظهرت بمسميات كثيرة،
لقد كان هذا الكتاب مثار اهتمام العديد من العرب والمستشرقين ففي عام 1933 أعد
المستشرق التشيكي هربرت دودا.W.Doda
H كتابا بعنوان (فرهاد وشيرين) وقام
فيه ببحث (خسرو وشيرين) لنظامي. وقد ترجم كتاب نظامي إلى العديد من اللغات.
جمالها وتعلقها بالغناء العراقي
تبدأ القصة بكلام شابور، نديم خسرو، وهو يصف (شيرين) لسيده، حيث زار شابور بلدها:
إنها فتاة ملائكية.. بدر منير
مضيئة الليل كضوء قمر ساطع
سوداء العينين كماء الحياة
باسقة القوام كنخلة فضية
يسيل لعاب الصدف من بعيد
حسرة على لألئ أسنان شبيهة
بالنور
أما شفتاها السكريتان فهما
عقيق نضر
وقد اتخذت من عينها – الساحرة-
ساحرا
يدرأ بتعاويذه عين السوء عنها
ويستمر الكاتب ويسهب في وصف شيرين بشتى الصور
الشعرية الرائعة ونراه يكثر من استخدام المصطلحات لوصفها مثل نبع السكر، وجه
القمر، مهاة المرج، السروة الباسقة. ولعل من أجمل الألقاب التي أطلقها عليها هو
تشبيهه إياها بـ (نهر الفرات) لعذوبتها (اشارة إلى أصلها العراقي )، وكذلك تشبيهه
لها بالنخلة(العراقية) في أكثر من موضع. وبعد أن أكثر من وصف لجمالها يشير نظامي
أن شابور أستمر ذاكرا مهاراتها الاخرى، فهي فارسة ماهرة في ركوب الخيل، وكان لها
جواد أسمه (كلكون)، يتحدث عنه شابور :
وقد ربط في إسطبلها جواد سريع
لا تلحق الريح غباره أثناء
عدوه
أن (شيرين) تعلقت بهذا الجواد وقد ربطته بسلسلة من ذهب.
من الصفات الملفتة للنظرفي شخصية (شيرين) حسب هذه حكاية
(نظامي)، هي فصاحتها وامتلاكها لقدرة بلاغية واضحة:
لقد سمعت أنها سميت (شيرين)
لشدة حلاوة لسانها عند الكلام
..........
في يدها عشرة أقلام هي أصابعها
وحديثها يهدئ ألف فتنة آسرة
للقلوب
أخيرا تذكر الحكاية لون الغناء المفضل لها والذي
كانت تطرب به هو الغناء العراقي، حيث يصفها مرة مع مجموعة من جواريها:
وشرعن في اللهو مرة أخرى
وأحضرن الشراب وبدأن السرور
وتوالى العزف في مقام عراقي..
بعد أن أسهب شابور بوصف محاسن (شيرين) الى الملك، بدأ يتعلق بها
وأراد رؤيتها ولكن قبل ذهابه بنفسه إلى بلادها، يرسل شابور أولا إليها ليذكر لها
أوصاف(كسرى) أمامها. وفعلا يقوم حيث شابور بوصف ملكه لشيرين بقوله :
أنك تشاهدين دنيا خلقت من
النور
جميل رشيق ماهر شجاع
في حنان الغزال وغضبة الأسد
هو كالشمس
تضيق شوارع الدنيا بموكبه
تئن الأرض من وقع أقدامه
وتبطئ سرعته دوران الفلك
وقد هوى ذلك المضيء بكل عظمته
أسير هوى حبك
حيث شاهد طيفك في نومه
فما عاد يحتسي الشراب
ولا ينام ليله ولا يجد راحة في
نهاره
ولا يطلب غير( شيرين)..
ويستمر
شابور بوصف كسرى وعشقه لـ (شيرين). ما أن أنهى قوله حتى أثر ذلك فيها. يحدثنا
الكاتب، بعد ذلك يأتي الملك بنفسه إلى بلاد (شيرين) وبعد أن يراها يزداد حبه
وتعلقه بها. وخلال فترة وجوده معها وخروجه وإياها في النزهات تبرز سمات جديدة لها
منها مهاراتها في الصيد واللعب مثل لعبها معه في لعبة الكرة والصولجان. رغم كل هذا
لم يطلبها كسرى للزواج وكانت رغبته أن تصبح عشيقة له ويحاول كل ما يستطيع لجعلها
كذلك ولكنها تمانع وبضراوة. وتواجه
مغرياته وهداياه قائلة :
بذلك الحي الذي لا يموت
وبتلك اليقظة التي لا سنة فيها
بالمالك الذي وهب الأجساد
زادها
وبالمعبود الذي رعى الأرواح
لن تحقق رغبتك مني – رغم أنك
ملك – بغير زواج
فكم حملت من ألوان الاضطراب في
رأسي
وكم من المساكين قتلوا على هذا
الباب
فأذهب كي لا أسفك دمك
ففي رقبتي كثير من دماء أمثالك
فأنت صخري الفؤاد وأنا فولاذية
الروح
ولا يصلح لذلك القلب إلا تلك
الروح
وتمر السنوات ومعها يزداد حب (خسرو) لـ (شيرين) وعشقها
له ويظهر (فرهاد) الذي كان يلقب بالحكيم، وهو مهندس ماهر استعانت به (شيرين) ليشق
لها نهرا في أرض صخرية وما أن رآها حتى هام بها حافر الصخر. زارته يوما أثناء عمله
وسقته الحليب، فيصف فرهاد هذا بقوله :
عندما تكون شيرين هي الساقية
يصير السم لا الحليب شهدا
عندما يعلم كسرى بأمر فرهاد يرسله ليقطع الصخر في
جبل بهستون وهناك يقضى عليه ويكون أسمه معبودته (شيرين) آخر ما ينطق به. بعدها
تستمر محاولات كسرى للتقرب من (شيرين) وتستمر هي بالممانعة، فيتزوج بأخرى، ولكن
تبقى صورة (شيرين) هي الأثيرة لديه.
تشير الحكاية إلى العديد من المناظرات والمراسلات بينهما يصف
فيها تشكي الملك وتمنع محبوبته:
وعندما أدرك الملك أن تلك
البذرة الأصيلة
لم تمكنه منها إلا بالزواج
أقسم كثيرا وقطع على نفسه
العهود
لن يمد يده إليها دون زواج
وأنه سيجمع عظماء الدنيا
ويرفع رأسها بالزواج
يذكر لنا التاريخ
الواقعي، ان الملك (كسرى الثاني) حكم بين (590 ـ 628 م)، حوالي اربعين عاما، وقد
قتل على يد ابنه(شيرويه) من زوجته الرومية. كان (كسرى الثاني )عمليا آخر الملوك
العضام لسلالة ساسان، حيث اعقبه عدة ملوك ضعاف سرعان ما انتهت دولتهم على يد
المسلمين الفاتحين عام 637 م، أي
بعد مقتل (كسرى الثاني) بحاولي تسعة اعوام.
اما الحكاية فتصف لنا السعادة التي عاشها العاشقان معا
حتى مقتل كسرى. وكيف ان (شيرين) ظلت وفية لزوجها، حيث انها طعنت نفسها بالخنجر
نفسه ودفنت معه بالقبر نفسه:
الروح رحلت الى الروح.. والجسد
استجاب للجسد..
فتخلص الجسد من البعاد..
واستراحت الروح من الشكوى..
ــــــــــــــ
المصادر
1-
آرثر كرستنسن، أيران في عهد الساسانيين، القاهرة 1957
2- أربري. أ.ج، تراث
فارس، ترجمة مجموعة من الأساتذة، القاهرة 1959
3-
جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، بغداد
1993
4-
نظامي كنجوي، خسرو وشيرين، ترجمة عبد العزيز بقوش، 2000
5- Percy
Sykes ' History of Persia ' London 1963
ــــــــــــــــــــــــ
* هنالك اعتقاد بأن اسم( شيرين) ليس فارسيا بمعني(حلوة) كما هو شائع، بل هو اسم اكدي عراقي مشتق من (سارا ) بمعنى ملكة ويلفظ ايضا (شارا) وتصريفه (شارون) و(شارين)..
* _ LABOUR،la cristianism dans l empir perse – p 222 - paris 1904
ـ الاب البير ابوناـ تاريخ الكنيسة السريانية الشرقيةـ الجزء الثاني ـ
ص 126
ـ روفائيل اسحق / تاريخ نصارى العراق ـ ص 18 / طبع مطرانية الكلدان في امريكاـ 1989.