(اديان الوطن)
الأديرة المسيحية العراقية.. عمران لا تهده نزوة إرهاب..
رشيد الخيون ـ انكلترا r_alkhayoun@hotmail.com
دير (مار متي) في الموصل، وهو من اقدم الاديرة في تاريخ
المسيحية..
تاريخ
الأديرة والكنائس بالعراق نعمة من نعم ماضيه الضارب في القدم، نعمة أن يكون مولدا
لإبراهيم ومتخيلا لقبر أدم، وترتفع في سماء نجفه قبتا النبيين هود وصالح وقبة
الإمام علي بن أبي طالب، وأن يكون مدفنا لذي الكفل(حزقيال النبي) ومدفنا للكاتب
الصالح عزرا وهو(العزير)، وأن يكون محطة المسيحية الأولى في الشرق. هذه الأديرة
والكنائس التي تحرقونها هي عصارة عقل المعمار العراقي، هي تاريخه الفني والعلمي.
أتدرون أين دفن الشيخ معروف الكرخي في القرن الثاني للهجرة؟ دفن في مقبرة دير،
تحولت بالتدريج مع تزاحم الأبدان إلى مقبرة عرفت باسمه وأخذ الناس يتباركون بها
ويستسقون. أتدرون ماذا قال راهب الدير يوم أتي بجنازة الشيخ الكرخي ؟ قال ما
يخجلنا جميعا من فعلتكم النكراء بأحفاده، وبأبنية صرف جل عمره في ريازتها، قال
:(لو أن أحدكم فعل فعله لكان مثله). ولم يذكره المسيحي يعقوب سركيس في مباحثه
العراقية، إلا ولحق قوله بعبارة(قدس الله روحه). من أنتم حتى تريدون إلغاء ذاكرة
تضامننا عبر الدهور؟ من أنتم يا كائنات الشر، التي تحتاج مردوخ آخر يعيدها إلى
قمقمها؟ من أنتم يا عبدة الدم والبارود؟ لقد هبطت المسيحية في أرض العراق في القرن
الأول الميلادي ولم نعرف عن أتباعها وهم السكان الأوائل غير التسامح والكلام
القدسي؟ وهبطتم أنتم متمنطقين بالديناميت تلغون به كل أثر جميل بالعراق، تقتلون
هؤلاء وهم يؤدون طقوس عاشوراء، وتقتلون أولئك وهم يؤدون قداسهم، ويتضرعون إلى الله
أن يهبط بالخير على العراق ؟ هنا أذكر في تاريخ تلك الأبنية التي أختار الشريرون
الأول من رمضان وهو الشهر المتفق بين العراقيين احترامه وأجلاله، لكن أشك أنكم
قرأتم سورة القدر وشعرتم بتسبيح الملائكة في غيهبها الأمين مثلما يشعر المسيحيون
بها فيمدون يد الأخوة العامرة. وهنا أقتبس من الجواهري العظيم وهو يؤبن أحد أعاظم
المسيحيين :
سعت أرض
العراق إلى لبنان
فتعانق الإنجيل والقرآن
وأقتبس
منه وهو يستقرئ تاريخ شواطئ دجلة وحاضرها، وما للمسيحيين فيه من أثر وحضور:
والمسمع
الدهر والدنيا وساكنها
قرع النواقيس في عيد الشعانين
سجل
المؤرخون وأهل الأدب المسلمون تاريخ العمارة المسيحية بالعراق ولم يأتوا على ما
ظهر بالحفائر بالمدائن وغيرها، عرف هذا النوع من التاريخ بالديارات، وأهمها كتابا
أبي الحسن الشابشتي(ت 388هـ)، وأبي فرج الأصفهاني (ت 356هـ). ونجد في معجم البلدان
لياقوت الحموي(ت626هـ) والكتب البلدانية الأخرى تفاصيل كثيرة، ومن بينها
نعتمد(الديارات)للشابشتي. ففيه مادة وافية لمجمل ديارات العراق، وقد أغنى المحقق
كوركيس حواشيه وعقبه بمادة لا يستغنى عنها. وحسب أخبار هذه الديارات إنها مكان جذب
لغير المسلمين، ومحل إعجاب الخلفاء والوزراء، وان جاز القول كانت مظهرا من مظاهر
العراق الحضارية والثقافية. وتبدو بمنتزهاتها وبتراتيلها وموسيقاها الدينية،
واحتفالاتها بالأعياد المستمرة طوال العام، محلات مضيئة تخفف من آلام الطواعين
والأوبئة الأخرى والمجاعات والحروب والغزوات والتعسف الديني والمذهبي، فهناك فارق
كبير بين خزائن الرؤوس، التي تحفظ رؤوس المقتولين لتجديد نشوة الانتصار، وبين دير
تعزف فيه الموسيقى وتنشد فيه الأناشيد، ومستوحاة من الرحمة اللامحدودة وحفيف
الأشجار ومساقط المياه المحيطة، يجد عابر السبيل، وضال الطريق والمريض، يداً
وابتسامة تخفف عنه، لكن هناك من المؤرخين المرضى من فسر لمسة اليد الرحيمة
والابتسامة البريئة لراهبة في الدير بأرذل الوصف وأشنعه.
ألهمت
الأديرة الشعراء والأدباء، فنظموا فيها وكتبوا عنها رقيق الكلام، وبهذا هي صاحبة
فضل في مجمل تاريخ حركتنا الثقافية. ولولا فضلها وتفوقها في المكان ما خصها
المؤرخون بمعاجم وبيانات، بغض النظر عن ما دس فيها من أخبار لا يعقلها عاقل، خصت
بذلك لجمال أمكنتها أولا، ولانفتاحها الاجتماعي وطيب عزلتها من ضجيج الأسواق
والمدن ثانيا. فهي وجه بغداد الجميل وحواضر العراق الأخرى.
سجل
الشابشتي أخبار 53 ديرا في العراق. فمن أديرة بغداد القديمة دير درمالس عند باب
الشماسية(الصليخ اليوم) نسبة إلى الشماس في الكنيسة، ومن الاسم تبدو المنطقة كانت
عامرة ببيوت العبادة المسيحية(وموقعه أحسن موقع، وهو نزه كثير البساتين والأشجار).
ودير سمالو بباب الشماسية أيضا، يقع على نهر المهدي(وهناك أرحية للماء، وحوله
بساتين وأشجار ونخل) وعيد الفصح ببغداد فيه منظر عجيب، أنه لا يبقى نصراني إلا
حضره، وتقرب فيه، ولا أحد من أهل التطرب واللهو من المسلمين إلا قصده للتنـزه فيه،
وهو أحد متنـزهات بغداد المشهورة. ويقع دير الثعالب بالجانب الغربي(الكرخ) بمكان
يعرف بباب الحديد، لا يكاد هذا الدير(يخلو من قاصد ومن طارق، وله عيد لا يتخلف عنه
أحد من النصارى والمسلمين) قال الأمير دهقانة الهاشمي، والي البصرة أيام ثورة
الزنج، واصفا:
دير
الثعالب مالف الظلال ومحل كل غزالة وغزال
سقيته
وشربت فضلة كأسه فشربت من عذب
المذاق زلال
ودير
اشموني، الذي ذكره الشابشتي خطأ بقوله :(أشموني امرأة بني الدير على اسمها. ودفنت
فيه، وهو بقطربلٌ) وحسب البيروني في((الأثار الباقية) لم تقتل شموني وأولادها
السبعة في العراق بل قتلت بأورشليم السنة 124 ق. م على يد الوثنيين، وقيل على يد
المجوس، وربما كانت قصتها من وحي الخيال. وقد(تبنت كنيسة المشرق قصة جهاد هذه الأم
وأولادها بمدلولها الروحي. كنموذج يحتذى به منذ فجر انتشار المسيحية)(تاريخ
عنكاوة). ولشموني، التي يضيف البيروني إلى اسمها مقبايا، عدة كنائس وأديرة قديمة
وحديثة بالعراق. ورد في التوراة ما نصه :(وقبض أيضا على سبعة اخوة مع أمهم، فكان
الملك يريد أن يكرههم على تناول لحم الخنزير المحرم، فيعذبهم بالسياط واطناب
الثيران. وجعل احدهم نفسه لسان حالهم، فقال:
ماذا
تبتغي أن تسالنا وان تعرف عنا ؟ إننا مستعدون لأن نموت ولا نخالف شرائع آبائنا).
ويذكر أبو نواس
شموني وقصتها بقوله:
باشموني وسبعة قدمتهم
وما حادوا جميعا عن طريق
ومن
ديارات بغداد دير سابر بالكرخ، وصفه الحسين بن الضحاك بقوله:
في دير
سابر والصباح يلوح لي
فجمعت بدراً والصباح لاحا
ودير
قوطا أو البدران، ويتصل ببغداد عبر بساتين وتنـزهات، قال العباس بن الفضل بن
الربيع(الوزير):
اقمت
بالدير حتى صار لي وطناً
من أجله ولبست المسح والصلبا.
كان دير
الصباغي أبرز ديارات تكريت، وهو(نزه عامر، له ظاهر عجيب فسيح، ومزارع حوله على
النهر، قال الشاعر فيه:
حسن الفؤاد إلى دير بتكريت بين الصباغ وقس
الدير عفريت
ويعد دير
قنى من أقدم الديارات المسيحية في العراق وهناك من أعتبره معقل المسيحية في العراق.
فيعرف أيضا بدير مار ماري السليح(شليحا أي الرسول) أحد المبشرين الأوائل، ويقع(على
16 فرسخا من بغداد، منحدرا إلى الجانب الشرقي، بينه وبين دجلة ميل ونصف، وبينه
وبين دار عاقول(الكوفة) بريد. ويذكر أن هذا الدير تأسس من قبل أمراة نبيلة شفيت من
مرض البرص على يد مار ماري(القرن الأول للميلاد) أسمها قنى، فحولت بيت النار
المجوسي إلى دير، وأصبح مدفنا لكثير من جثالقة الشرق بعد أن دفن فيه مار ماري(ذيل
الديارات)، ظل هذا الدير قائما حتى القرن السابع الهجري.
ويعد دير
الأعلى من أقدم وأهم أديرة الموصل يطل على دجلة والعروب(النواعير)، وقيل ليس
للنصارى دير مثله، لما فيه من أناجيلهم ومتعبداتهم، وفيه قلايات(صوامع) لرهبانهم،
وله درجة منقورة في الجبل، قال الثرواني فيه:
وأصطبح
في الدير الأعلى في
الشعانين أصطباحا
كنيسة في (عينكاوة) الكلدانية في شمال العراق
كان
المأمون(ت 218هـ) ينزل في هذا الدير عند سفره الى الاصطياف برقة الشام على الفرات،
(ووافق نزوله عيد الشعانين)، ويومها استقبله المسيحيون استقبالا لائقا بالخلافة،
فتقدم الفتيان والفتيات حاملين الرياحين والكؤوس(فأفادهم وجعل يأخذ من هذا ومن هذه
تحية). وفي الموصل أيضا دير يونس بن متى(هو في الجانب الشرقي من الموصل، بينه وبين
دجلة فرسخان، وموضعه يعرف بنينوى). ودير الشياطين ببلد غربي دجلة(له منظر حسن
وموقع جليل وهواؤه رقيق لطيف وقلاليه عامرة كثيرة الأشجار وأرضه كثيرة الرياض).
بين
بغداد وسامراء يبدو أن دير باشهرا محطة للمسافرين، و(أحد المواقع المقصودة
والديارات المشهورة، والمنحدرون من سرمن رأى والصاعدون إليها ينزلونه، فمن جعله
طريقا بات فيه وأقام به إن طاب له، ومن قصده أقام أياما في ألذ العيش وأطيبه، أحسن
مكان وأنزهه). قال أبو العيناء ت 282 هـ :
نزلنا
دير باشهرا على قسيسه ظهرا
على دين أيسوع
فما أفتى وما أسرا
ومن
الأديرة الخاصة بالنساء دير الخوات(تسكنه نساء مترهبات متبتلات فيه، وهو وسط
البساتين والكروم، حسن الموقع، نزه الموضع، وعيده الأحد الأول). ودير السوس
بسامراء، الذي قال فيه عبد الله بن المعتز(ت296هـ):
يا ليالي بالمطيرة والكرخ ودير
السوس بالله عودي
وكان
الأمير العباسي والخليفة ليوم واحد أبن المعتز يتردد أيضا على دير مار ماري، بصحبة
الفضل بن العباس بن المأمون. وبالنجف، بظاهر الكوفة، عدة ديارات تعرف بديارات
الاساقفة، وحولها نهر الغدير، وعلى يمينه قصر أبي الخصيب، ومولى ابي جعفر المنصور،
وعلى شماله السدير. قال علي بن محمد الحماني العلوي:
كم وقفة
لك بالخورنق لاتوازي بالمواقف
بين
الغدير الى السدير الى ديارات
الاساقف
ومن
عمارة الحيرة المسيحية قبة الشتيق(كلمة سريانية تعني الساكت) تقع(على طريق الحاج،
وبأزائها قباب يقال لها الشكورة، جميعها للنصارى، فيخرجون يوم عيدهم من الشكورة
الى القبة، في احسن زي عليهم الصلبان، وبايديهم المجامر). ودير سرجس، بين الكوفة
والقادسية، بمكان يعرف قديما بطيزناباذ، خرب هذا الدير زمن الشابشتي(القرن الرابع
الهجري)، ورد ذلك بقوله : خربت الآن، وبطلت وعفى آثارها، وتهدمت آبارها، ولم يبق
من جميع رسومها الا قباب خراب، وحجر على قارعة الطريق.
ومن اعظم
ديارات الحيرة، التي غاب أثرها، دير هند بنت النعمان بن المنذر، فهي التي(بنت هذا
الدير بالحيرة، وترهبت فيه وسكنته طويلا ثم عميت). وقيل أن هند، التي عاشت حتى زمن
الحجاج بن يوسف الثقفي(95 هـ)، وقيل زارها سعد بن أبى وقاص عند دخوله الكوفة، وقيل
خالد بن الوليد، الذي سألته يوم دخل الحيرة :(هؤلاء النصارى الذين في أيديكم
تحفظونهم، فقال : هذا فرض علينا، وقد وصانا به نبينا، قالت : مالي حاجة غير هذه،
أنا ساكنة في دير بنيته ملاصق هذه الأعظم البالية من أهلي حتى الحق بهم). وقال أبو
فرج الأصفهاني : إن هند ترهبت(لما حبس كسرى النعمان الأصغر أباها، ومات في حبسه،
ترهبت ولبست المسوح، وأقامت في ديرها مترهبة، حتى ماتت ودفنت فيه). وذكر الأصفهاني
دير هند الكبرى بنت الحارث الكندي بالحيرة، وكان مكتوب في صدره(بنت هذه البيعة هند
بنت الحارث عمرو بن حجر الملك بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أمة المسيح،
وأم عبده، وأمة عبده، في زمن ملك الأملاك خسرو أنوشروان، وفي زمن آفرايم الأسقف،
فالإله الذي بنت له هذا البيت يغفر خطيئتها، ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بهما
وبقومهما إلى إقامة الحق، ويكون الإله معها ومع ولدها الدهر الداهرين)(الديارات
بتحقيق جليل العطية).
ومن
ديارات الأنبار دير مار يونان(كثير القلايات والرهبان، عليه سور محكم البناء، فهو
كالحصن له، والجامع ملاصقه). وقيل إن يونان مؤسس هذا الدير أو العمر، أنحدر من
جزيرة قبرص، من سلالة الملك قسطنطين، وكان طبيبا وفيلسوفا، وذهب إلى مصروتتلمذ على
القديس أوجين، ثم قدم معه إلى العراق(ذيل الديارات) مبشراً. ويعود تاريخ وجود هذا
الدير إلى القرن الرابع الميلادي. وهو الدير الذي شهد نكبة البرامكة، وفيه قتل
هارون الرشيد وزيره البرمكي وحمله إلى بغداد ليصلي نصفاها على رأسي الجسر. ونذكر
عن الشابشتي في ديارات أنحاء العراق الأخرى دير كسكر(في أسفل واسط من الجانب
الشرقي منها، بالقرية المعروفة ببرجوني، وفيه كرسي المطران، وهو عمر كبير عظيم
محكم الصنعة، حوله قلايات كثيرة، كل قلاية منها لراهب). ودير مار جرجيس بعانة على
الفرات، قال أبو طالب المكفوفي الواسطي:
بين وردٍ
ونرجسٍ وبهار
وسط بساتين دير مار سرجيس
ويذكر
حبيب الزيات في(الديارات النصرانية في الإسلام) تفاصيل الديارات والكنائس وما فيها
من صور فنية ومنحوتات(إما محفورة منقوشة بأنواع الأصبغة والأدهان، أو مرسومة بأزهى
الألوان). وفيها صور الأنبياء والقديسين والعذراء والصلبان. وقيل أن المعتصم مر
ببيعة مار جرجس فأعجبته صوره، فأطال النظر إليها.
هذه لمحة
من تاريخ عريق لعمارة الأديرة بالعراق جاء برواية المسلمين، تاريخ ليس فيه عنف
الحروب الصليبية، حتى يحمل هؤلاء تبعاتها، وليس فيه تشدد كنائس إيطاليا في القرون
الوسطى، إنه نزهة من نزهات الشرق. وشمسه الدائمة السطوع. صحيح أنه أبتلي باستبداد
شرقي، مرة ديني وأخرى عشائري، ومرة استبداد يمزج بين الطرفين، لكنه تاريخ انفتاح
اجتماعي، وتجاور مريح.