من تجارب
شعبنا في الكفاح السلمي:
وثبة كانون
عام 1948
عشتار البرزنجي / فنلنداbarzanji_479@hotmail.com
من اولى المظاهرات السلمية
للعراقيين اوائل القرن العشرين
على أثر إعلان نص المعاهدة التي وقعها [صالح جبر ] مع
[ارنست بيفن ] وزير الخارجية البريطاني اجتاحت العراق موجة عارمة من الغضب الشعبي
العارم، ونشرت الأحزاب الوطنية في 18 كانون الثاني البيانات المنددة بالحكومة
والمعاهدة، وطالبت البيانات باستقالة حكومة صالح جبر ورفض المعاهدة.
سارعت الحكومة إلى إصدار بيان أذيع من دار الإذاعة،
هددت فيه بقمع المظاهرات بكل الوسائل والسبل، وقد شكل البيان استفزازاً كبيراً
لجماهير الشعب دفعهم إلى تحدي السلطة، وأعلن طلاب المدارس كافة تضامنهم مع جماهير
الشعب وتحدي البيان.
وفي 20 كانون الثاني انطلقت المظاهرات الواسعة يتقدمها
طلاب كلية الشريعة بجبهم وعمائمهم البيضاء هاتفين بسقوط حكومة صالح جبر والمعاهدة،
تدهور الوضع في بغداد والمدن الأخرى بسرعة أرعبت الحكومة ودعا الوصي [عبد الاله]
أعضاء الحكومة، وعدد من رؤساء الوزارات السابقين، وممثلي الأحزاب السياسية
الوطنية، إلى عقد اجتماع في قصر الرحاب في 21كانون الثاني، لتدارس الوضع، والخروج
من المأزق الذي وضعت الحكومة نفسها فيه، وكان من بين الحاضرين الشيخ [ محمد الصدر
] و[جميل المدفعي ] و[ حكمت سليمان ] و [ حمدي الباجه جي ] و[ارشد العمري ] و[نصرت
الفارسي ] و[ جعفر حمندي ] و [ محمد رضا الشبيبي ] و [ ومحمد مهدي كبه] زعيم حزب
الاستقلال و [ كامل الجادرجي ] زعيم الحزب الوطني الديمقراطي و[علي ممتاز
الدفتري]ممثلا لحزب الأحرار، و[عبد العزيز القصاب] و[صادق البصام] ونقيب المحامين
[ نجيب الراوي ].
شعر الوصي عبد الإله بخطورة الموقف، وعدم استطاعة
الحكومة مجابه الشعب، وبعد مداولات دامت أكثر من خمس ساعات أصدر الوصي بياناً إلى
الشعب يعلن فيه تراجع الحكومة عن المعاهدة ومما جاء في بيانه قوله { إذا كان الشعب
لا يريد هذه المعاهدة فنحن لا نريدها أيضاً }.
لقد أراد الوصي أن يمتص ببيانه هذا، الغضب الجماهيري،
الذي بات يهدد النظام، وهو في حقيقة الأمر كان مرغماً على تلك الخطوة وهذا ما أكده
وكيل رئيس الوزراء [جمال بابان ] نفسه للسيد عبد الرزاق الحسني، بعد قيام ثورة 14
تموز 1958 من أن الوصي عبد الإله أصّر في بادئ الأمر على استخدام الشدة والعنف مع
المتظاهرين،، وبرر سكوته عن ذلك طيلة تلك المدة إرضاءاً للوصي وتستراً على موقفه
من قصة رفض الشعب للمعاهدة التي عقدت بمعرفته وبتوجيهاته.
أدى بيان الوصي عبد الإله إلى حدوث انشقاق في صفوف
الأحزاب الوطنية، فقد انشق حزب الاستقلال داعياً جماهير حزبه إلى التوقف عن
التظاهر بعد بيان الوصي، فيما أصرت بقية القوى الوطنية على مواصلة الكفاح حتى سقوط
حكومة صالح جير، وقيام حكومة حيادية تأخذ على عاتقها إجراء انتخابات حرة ونزيهة،
وتطلق سراح كافة المعتقلين السياسيين.
(نوري السعيد) الذي كان رجل العراق الاول
طيلة العهد الملكي..
وفي الوقت الذي كان الوصي يسعى بكل جهده لتهدئة الوضع،
اتهم صالح جبر ـ رئيس الوزراء ـ في لندن، في 22 كانون الثاني، المتظاهرين بأنهم
عناصر هدامة من الشيوعيين والنازيين الذين اعتقلهم عام 1941 بعد إسقاط حكومة
الكيلاني على يد جيش الاحتلال البريطاني. وقد توعد جبر في تصريحه بالعودة إلى
بغداد لسحق رؤوس العناصر الفوضوية، وكان صالح جبر بتصريحه هذا قد صب الزيت على
النار، فانطلقت مظاهرات عارمة ضد الحكومة.
وفي 25 منه أعدت الحكومة البريطانية طائرة خاصة لنقل
صالح جبر وبقية أعضاء الوفد إلى بغداد لمعالجة الوضع، وكبح جماح المعارضة الوطنية،
لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في مطار بغداد لذي طوقته الجماهير، واضطرت إلى الهبوط
في القاعدة الجوية البريطانية في الحبانية، وتم نقله والوفد المرافق له بواسطة
المصفحات والمدرعات، إلى قصر الرحاب خفية، حيث التقى بالوصي بحضور نوري السعيد،
وتوفيق السويدي، وقد اتهم صالح جبر وكيله جمال بابان بالتهاون في قمع المظاهرات،
وطلب من الوصي منحه الصلاحيات اللازمة للقضاء على الثورة الشعبية خلال 24 ساعة.
لكن جمال بابان أكد استحالة إنهاء المظاهرات
دون استقالة الحكومة، وأيده في موقفه جميل عبد الوهاب ـ وزير الشؤون الاجتماعية ـ،
فيما وقف نوري السعيد الى جانب صالح جبر داعياً إلى استخدام أقسى أساليب العنف ضد
المتظاهرين، فما كان من جمال بابان إلا أن قدم استقالته من الحكومة احتجاجاً على
انتقادات صالح جبر.
وفي ليلة 26 / 27 كانون الثاني، أصدر صالح جير قرارا
خول فيه متصرفي الألوية[ المحافظين] وأمين العاصمة ومدراء الشرطة صلاحية استخدام
السلاح لتفريق المظاهرات، وإنزال قوات كبيرة من الشرطة لتحتل المراكز الحساسة في
العاصمة وبقية المدن الأخرى.
اجتاحت شوارع بغداد وسائر المدن الأخرى مظاهرات
هادرة، منددة بالحكومة، ومطالبة بسقوطها وسقوط المعاهدة، وبات الوضع خطيراً جداً
في تلك الليلة، حيث كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق من قبل الشعب من جهة،
والحكومة وقواها القمعية من جهة أخرى، انتظاراً لصباح اليوم التالي 27 كانون
الثاني. فلما حلّ ذلك الصباح تحولت شوارع بغداد والمدن الأخرى إلى ساحات حرب
حقيقية، فقد نشرت الحكومة قوات كبيرة من الشرطة المزودة بالمصفحات في الشوارع
الرئيسية، فيما نصبت الرشاشات الثقيلة فوق أسطح العمارات العالية ومنارات الجوامع،
استعداداً للمعركة الفاصلة.
وفي الساعة التاسعة صباحاً بدأت الجماهير الشعبية في
الأعظمية والكاظمية، وفي جانبي الكرخ، والرصافة تتجمع في الساحات العامة، ثم
انطلقت في مسيرتها للالتقاء ببعضها، وقابلتها قوات الشرطة بوابل من رشقات الرصاص،
استشهد على أثرها أربعة من المتظاهرين، ووقع العديد من الجرحى، مما زاد في اندفاع
الجموع الهادرة واندفاعها، وإصرارها على التصدي لقوات القمع، وتقدمت مظاهراتان من
جهة الأعظمية، ومن جوار وزارة الدفاع لتطويق قوات الشرطة التي حاولت الانسحاب إلى
شارع [ غازي ] سابقا، والكفاح حالياً، ولاحقتها جموع المتظاهرين مشعلة النيران
بسياراتها ومصفحاتها، واستولت الجماهير على مركز شرطة [العباخانة ]، وتوجهت إلى
ساحة [ الأمين ]، [الرصافي حالياً] في طريقها للالتحام بجماهير الكرخ، عبر جسر
المأمون [ الشهداء حالياً ].
الشاعر (الجواهري) الذي اصبح (الناطق الشعري)
للوثبة وخصوصا بعد مقتل اخيه اثناء التظاهرات
كانت قوات الشرطة قد استعدت عند مدخل الجسر، حيث نصبت
رشاشاتها فوق أسطح العمارات ومنارات الجوامع عند طرفي الجسر في جانبي الكرخ،
والرصافة لمنع مرور المتظاهرين عبر الجسر، ومعهم أمر بإطلاق النار على المتظاهرين
المندفعين نحوالجسر، واستطاعت قوات الشرطة إيقاف زحف الجماهير نحوالجسر من جانب
الرصافة في بادئ الأمر، مما دفع بجماهير الكرخ إلى الاندفاع نحوالجسر بغية عبوره،
والالتحام بجماهير الرصافة المتواجدة في ساحة الأمين. وعند منتصف الجسر جابهتهم
قوات الشرطة بنيران رشاشاتها المنصوبة فوق منارة جامعي [ الوزير ] و[الآصفية ] في
جانب الرصافة، ومنارة جامع [ حنان ] في جانب الكرخ ومن المدرعات الواقفة في مدخل
الجسر، وقد استشهد ما يزيد على 40 مواطنا، وجرح اكثر من 130 آخرين وتناثرت جثث
الضحايا فوق الجسر.
أجرى عبد الإله، اتصالا تلفونياً مع رئيس أركان الجيش
الفريق [ صالح صائب الجبوري] في 27 كانون الثاني، حوالي الساعة الثالثة والنصف
عصراً، طالباً منه إدخال عدد من قطعات الجيش إلى شوارع بغداد، لكن الجبوري حذر
الوصي من مغبة إدخال الجيش في شوارع بغداد، ولاسيما وانه لا يزال يعاني من مرارة
الاحتلال البريطاني عام 1941، وأكد الجبوري للوصي عدم ضمان وقوف الجيش ضد الشعب،
واقتنع الوصي برأي الجبوري، وطلب منه البقاء على اتصال دائم بالقصر حتى ينجلي
الوقف.
وفي الوقت الذي كانت الأزمة تتصاعد، قدم 20 نائبا في
البرلمان استقالتهم، احتجاجا على الأساليب القمعية للحكومة ضد أبناء الشعب،
بالإضافة ألى استقالة وزير المالية [ يوسف غنيمة]ووزير الشؤون الاجتماعية [ جميل
عبد الوهاب ].وفي الوقت نفسه كان عبد الإله مجتمعا في قصر الرحاب مع الشيخ [محمد
الصدر ]و [ نوري السعيد ] لبحث الموقف وسبل الخروج من الأزمة.
أخذ الوصي برأي الشيخ الصدر وأوعز إلى رئيس الديوان
الملكي [ أحمد مختار بابان ] للاتصال بصالح جبر والطلب منه تقديم استقالة حكومته،
في 27 كانون الثاني 1948 الذي شهد أشد المعارك بين الشعب وقوات الحكومة، وقدم صالح
جبر استقالته التي تم قبولها فوراً، وتوجه الوصي بخطاب إلى الشعب من دار الإذاعة،
أعلن فيه استقالة الحكومة، داعيا الشعب للإخلاد إلى الهدوء.
حقق الشعب في وثبته هدفان، فقد اسقط المعاهدة، واسقط
الحكومة، لكن الوثبة لم تستطع حسم الصراع مع السلطة الموالية للمحتلين
البريطانيين، على الرغم من هروب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج العراق ريثما تهدأ
الأوضاع، فقد كانت حياتهم مهددة بخطر حقيقي لو تسنى للجماهير الوصول إليهما.
الشيخ محمد الصدر
الشيخ
محمد الصدر يؤلف الوزارة الجديدة
حاول الوصي عبد الإله تكليف الشيخ محمد الصدر بتأليف
الوزارة الجديدة، نظراُ لتمتعه بمركز ديني كبير، إضافة إلى كونه من الطائفة الشيعية،
حيث وجد أن الشيخ الصدر هو خير من يستطيع تهدئة الأوضاع. لكن الصدر اعتذر عن
المهمة رغم إلحاح الوصي، مما اضطره إلى تكليف أرشد العمري، وقد حاول العمري بالفعل
القيام بهذه المهمة لكنه جوبه بمعارضة شديدة من قبل الأحزاب الوطنية التي لازالت
تذكر الأعمال التي قام بها عند تشكيل وزارته السابقة، فهو بالنسبة للأحزاب الوطنية
والشعب، غير مرغوب فيه، وهكذا فشل العمري في مهمته.
وفي الوقت نفسه أصدرت الأحزاب الوطنية [ الوطني
الديمقراطي والاستقلال والأحرار ] بيانا إلى الشعب عن تلك الأحداث التي عصفت
بالحكومة، وتضمن البيان ستة مطالب من الحكومة القادمة وهي :
1 ـ الإعلان الرسمي عن الغاء معاهدة بورتسموث.
2 ـ إجراء تحقيق دقيق عن مسؤولية إطلاق النار على أبناء
الشعب.
3 ـ حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
4 ـ احترام الحريات الدستورية.
5 ـ إفساح المجال للنشاط الحزبي.
6 ـ حل مشكلة الغذاء، بشكل يوفر للشعب قوته.
كما قام زعماء الأحزاب الثلاثة بالاتصال بالشيخ الصدر
طالبين منه الرجوع عن موقفه، والقبول بتأليف الوزارة، ونزولاً عند رغبتهم قبل
الصدر المهمة رسمياً في 29 كانون الثاني 1948.
وجاءت وزارة الصدر من نفس الفئة الحاكمة، باستثناء محمد
مهدي كبه، ومن العناصر المعروفة بولائها للبريطانيين.
الوصي علي العرش(عبد الاله)، مع ابن اخته
الذي اصبح (فيصل الثاني)
كانت وزارة الصدر، وزارة تهدئة بعد تلك الوثبة الجبارة
التي أوشكت أن تطيح بالنظام، واستطاعت إسقاط حكومة صالح جبر وإسقاط المعاهدة، ومن
أجل تهدئة الأوضاع أقدم الصدر على تنفيذ الإجراءات التالية :
1 ـ أتخذ مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 31 كانون
الثاني قراراً بإلغاء معاهدة بورتسموث وإبلاغ الحكومة البريطانية برغبة العراق
بعقد معاهدة جديدة تحقق طموحات الشعب العراقي في الحرية والاستقلال الناجزين، وقد
عارض القرار الوزير عمر نظمي الذي قدم استقالته من الحكومة احتجاجا على القرار.
2 ـ قررت الحكومة في 2 شباط تأجيل جلسات مجلس النواب
لمدة 50 يوماً، لامتصاص غضب الجماهير، لكن الحملة اشتدت على المجلس من قبل الأحزاب
الوطنية والصحافة والاحتجاجات الشعبية طالبين حل المجلس وأجراء انتخابات حرة
ونزيهة، ولم ترَ الوزارة بد اً من النزول عند الضغط الشعبي وضغط الأحزاب الوطنية
والصحافة، واضطرت إلى اتخاذ قرار بالطلب من الوصي بإصدار الإرادة الملكية بحل
المجلس النيابي في 22 شباط، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
3 ـ قد اتخذ مجلس الوزراء قراراً بعودة الصحف المعطلة
للصدور من جديد، وإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين، والذين صدرت بحقهم الأحكام
بالسجن، كما جرى إطلاق سراح معظم الطلاب الذين اعتقلوا خلال أحداث الوثبة،
وأعادتهم إلى مدارسهم وكلياتهم.
4 ـ قرر مجلس الوزراء فسح المجال للنشاط الحزبي، بعد أن
كانت الحكومة السابقة قد ضيقت عليها بكل الوسائل والسبل، بسبب مناهضتها لمعاهدة
بورتسموث.
5 ـ تم سحب البعثة العسكرية البريطانية من الجيش
العراقي في 22 آذار 1948.
6ـ سعت الحكومة إلى الاتصال بمجلس الطعام الدولي لغرض
الحصول على 30 ألف طن من الحنطة بشكل عاجل، لمعالجة أزمة الخبز التي سببتها حكومة
أرشد العمري.
7 ـ وافقت وزارة الداخلية على جمع مبلغ 50 ألف دينار
لغرض توزيعها على عوائل الشهداء والجرحى، الذين سقطوا خلال الوثبة الوطنية.