الاعظمية.. جوهرة الرُصافة..
صافي الياسري ـ بغداد
هي هدب عين الساحل الشرقي لدجلة، والشبوي
المخضل بروح الرازقي البغدادي على امتداد الشط من قصر شاكر الموادي ورقة الرشيد (الكريعات)
شمالاً حتى جنوب البلاط الملكي، تلك هي اعظمية بغداد وليدة الامام الأعظم النعمان
بن ثابت (أبي حنيفة). (عسكري المهدي)
يوم كنا صبية وقبل ان يسرق شواطئنا ومدننا
وملاذاتنا طاغية العراق، كنا نلتقي صيفاً، شباب الكاظمية والاعظمية في جزرة دجلة
التي كانت تطلع لنا بمجرد ان ننهي امتحاناتنا الموسمية، فنلهو فريقا كرة قدم أو
كرة طائرة جائزتنا بعد اللعب ذلك الرقي المبرّد على ساحل الجزرة. ولم نكن يومها نفهم معنى كلمة
(طائفة) فلم يكن ثمة من يتداولها. والرصافة وبعضها الأعظمية، هي ـ عسكري المهدي ـ
بنيت اثر شغب الرواندية على ابي جعفر المنصور حين حاربوه على باب الذهب، وقد بنيت
وفقاً لمشورة قثم بن العباس بن عبد الله بن العباس حين قال للمنصور:
(ابن للمهدي قصراً في الجانب الايسر من دجلة قبالة
مدينتك فيصير ذلك بلداً وهذا بلداً، فان فسد عليك اهل هذا الجانب ضربتهم باهل
الجانب الآخر، وان فسدت عليك مضر ضربتها باليمن وربيعة والخراسانية). وسرعان ما
عمرت الرصافة وامتدت اركانها إلى موقع الاعظمية التي اختص السكن فيها بالاجراء
والرؤساء والتجار والموسورين الذين بنوا فيها القصور وزخرفوها، وازدهرت فيها
الأسواق والحمامات. ومنها سوق يحيى الذي
يشير المقدسي إلى انه كان قرب مشهد ابي حنيفة ـ المقدسي ـ احسن التقاسيم (130)
والى ذلك يشير ابن الجوزي أيضاً في المنتظم (جـ6 ص146) وابن الحق في اخبار بغداد
ص142، ويذكر اليعقوبي في (فتوح البلدان، ص 253ـ 254) ان هذه السوق أخذت اسمها من
يحيى بن الوليد من حاشية الرشيد، بينما ينسبها كل من الخطيب البغدادي وياقوت إلى
يحيى بن خالد البرمكي الذي كان الرشيد قد منحه اقطاعاً واسعاً في منطقة الاعظمية
وقد صار ذلك الاقطاع بعد نكبة البراكمة إلى أم جعفر، ثم اقطعه المأمون بعد مقتل
الأمين إلى قائده ظاهر بن الحسين.
ويقول ابن الجوزي ان دكاكين سوق يحيى كانت عالية
على طراز دكاكين باب الطاق وفيها دقاقون وجنازون وحلويون وهي سوق تقع بين مساكن
الوزراء والامراء والرؤساء والموسورين. وعلى امتداد الطريق الصاعد شمالاً من سوق يحيى
(محلة وسوق النصة حالياً) يقع سوق خالد البرمكي وعلى مقربة منه سويقة جعفر كما
يذكر ابن الفقيه الهمداني في كتابه (بغداد، ص57) وياقوت في البلدان (ج5 ص1829،
والى الشرق من الاعظمية تقع الشماسية وسوقها القديم وما زالت حتى اليوم تعرف بهذا
الاسم، وفيها نادي الاعظمية الرياضي وساحة عنتر.
حديقة العشاق
ويوم كنا تلامذة في جامعة بغداد/ اوائل
السبعينيات، كان شاطئ الاعظمية ملاذنا الحبيب للاستراحة والدراسة ولقاء الاحبة،
فحديقة العشاق وجنينة الروز كانتا (دار المواعيد) وجدران كازينو الخورنق
وصفصاف الشاطئ غصناً وجذعاً هي اوراق كتاباتنا العاشقة وذكرياتنا، فمن مناديل
الماء المبسوطة رقراقاً على رمال الساحل حتى ظلة السدر والصفصاف والنخيل ومزاغل
الياس والروز كنا نخبئ صويحباتنا وكتبنا ومعاطفنا، وكم بكينا يوم سرق الطاغية شط
جنينة الروز وحديقة العشاق وهدم كازينو الخورنق ليبني قصره المشؤوم.
اختفى الصفصاف والسدر والتوت، ومزارع (الكرادة)
على الساحل الذي كانوا يستثمرونه لزراعة القثاء واللوبياء والرقي والبطيخ
والباميا، اختفت الخضرة المحببة لتبرز جدران القصر ومن خلفها وجوه العسكر المقيتة. وحولت امانة العاصمة بقية
الساحل إلى مطاعم وكازينوهات وجدت فيها العوائل البغدادية ملاذاً آمناً، لكنها
تدفع لقاء جلسة حالمة وعشاء، مبلغاً لا يستهان به، في الوقت الذي كانت فيه العوائل
تفترش حدائق الشط مجاناً حاملة معها طعامها وشرابها. وقد انتقلت إلى مطاعم هذا
الشط سلطانية الاكلة البغدادية المعروفة (السمك المسكوف). وتمضي من (قصير السلطان) الذي
يستوطنه اليوم عسكر العم سام وتحيط به الدبابات والاسلاك الشائكة ولافتات التحذير
خطر الموت.. تمضي شمالاً وقبيل الجسر إلى اليمين مع انحراف الشاطئ تدخل محلة
السفينة احدى اقدم محلات الاعظمية، وفيها تقع المقبرة الملكية التي تضم رفات ملوك
العراق الثلاثة فيصل الأول وغازي وفيصل الثاني، وآخرين من العائلة المالكة.
مرقد الامام الاعظم من الداخل
المشهد المقدس
ثم تتجه إلى معلم الاعظمية الأول مشهد الامام ابي
حنيفة النعمان بن ثابت (رض). والى جنوبه مبنى كلية الدراسات الإسلامية (اهل البيت سابقاً) ومكتبتها
الشهيرة التي أثار استيلاء وزير الاوقاف أيام الملك فيصل الأول، الشيخ احمد الداود
بدء تأسيسها، استياء اهل الاعظمية وخروجهم في تظاهرات حاشدة مما دفع عدداً من نواب
البرلمان حينذاك إلى مساءلة الشيخ احمد الداود الذي انتصر له الملك فيصل الأول
لانجاح مشروع تأسيس مكتبة الاوقاف. وخلف هذه الكلية تقع مقبرة الخيزران، وهي أم
الخليفة العباسي هارون الرشيد، وقد اوقفتها للموتى من غير القرشيين، فمقبرة قريش
كما هو معلوم، تقع في منطقة الكاظمية، وفي مقبرة الخيزران يمكننا قراءة شواهد عدد
من القبور تضم مشاهير من القادة العسكريين والحكام والشعراء والادباء والوجهاء،
منهم مثلاً جميل صدقي الزهاوي وعدد من راجات الهند وباكستان، وشيخ الطريقة
الرفاعية أبو بكر الشبلي وسواهم. اما ضريح وجامع الصوفي المعروف ببشر الحافي فيقع خلف مشهد ابي حنيفة قريباً
من الشط والجامعة الملحقة بجامع الامام ابي حنيفة، في حقيقتها كلية عامة يدرس فيها
الطلبة أصول الفقه والتفسير والمذاهب الإسلامية واللغة العربية وبعض الانكليزية
وما يلزم ليتخرج الطالب امام جماعة، ويدرس فيها أساتذة متخصصون ولها شهرة واسعة في
عموم البلدان الإسلامية التي توفد ابناءها للدراسة في هذه الكلية التي كانت
الحكومة العراقية تتكفل بمصاريف الدراسة فيها، ويتقاضى طلابها راتباً شهرياً من
الحكومة لمصاريفهم الخاصة، كما تتولى الحكومة أيضاً الانفاق على سكناهم وطعامهم.
وتحوي مكتبة المشهد، نفائس المخطوطات في التفسير
والحديث والفقه واللغة العربية، وتحوي خزائنه ذخائر قيمة من نذور ملوك وامراء
وتجار المسلمين في عموم البقاع الإسلامية، كذلك تحوي احدى خزاناته (شعرة الرسول)
ويقال أنها شعرة من لحية أو رأس البني محمد (ص) يتبرك بها الزائرون ويظهرها ائمة
الجامع يوم المولد النبوي. اما ساعة الجامع ـ البغدادية الصنع ـ التي تضررت في الحرب الأخيرة، فقد تم
اصلاح برجها ووضع ساعة أخرى بديلة، فيما تقوم وزارة الاوقاف باصلاح السياج الشمالي
وبوابة الجسر اللذين تضررا أيضاً، على وفق النسق المعماري الذي شيد بموجبه عموم
المشهد.
جسر المحبة
الاعظمية والكاظمية حيان بغداديان تفصل
بينهما دجلة وتقربهما الى بعض ارواح الائمة والاولياء المدفونين في الجانبين
ومشاعر السكان المتضامنين، ويشدهما الى بعض جسر الائمة الذي يطلق عليه البعض هذه
الايام اسم جسر المحبة، ويتذكر الشيوخ من الحيين يوم كادت الكاظمية تغرق اوائل
الخمسينيات عندما فاضت دجلة، وكيف تنادي اهل الاعظمية لنجدة اخوتهم في الكاظمية
وبنو سدتها معاً كتفاً الى كتف وهم يهزجون (اجه الروج عالسده وموسى بن جعفر رده)
وهناك من يرفع اليوم لافتة كتب عليها - والاعظمية قد غدا ما نابها والكاظمية
واحداً - ويوم تفجرت اجساد الزوار في عشرة عاشوراء في العام الماضي في الكاظمية،
تنادى اهل الاعظمية فحملوا الجرحى الى مستشفى النعمان بسياراتهم وحملوا الماء
والطعام للوافدين عبر الاعظمية الى جسر المحبة فالكاظمية، وعلقوا لافتات تدين ذلك
العمل الاجرامي على جدران مشهد الامام (ابي حنيفة) وهنا تترد كثيراً عبارة تمنح
القلب العراقي مساحة واسعة من الفرح والطمأنينة: ليس فينا من يفرق.. بيننا من جسور
المحبة ما لا ينتهي.