مندلي من
مدائن العراق التي ورد ذكرها تكرارا في كتب التاريخ وهي من مدن أطراف العراق
الشرقي بحيث تبعد عن الحدود الإيرانية بعض كيلومترات عن منطقة(بشت كو) وتتبع
بعقوبة وتبعد عنها 93كلم وعن بغداد 160 كلم وأقرب المدن العراقية عنها بدرة
وخانقين وبعقوبة والمقدادية. وتقع في لحق جبل حمرين الذي يمتد على طول حدودها
الشرقية وينتهي نهائيا قرب أراضي (هشيمة) أي قرب حدود مندلي – بدرة. وتشرف قصبة
المدينة على سهول واسعة تسقيها الوديان التي تنبع من جبال إيران وتصب في هذا السهل
الفسيح حيث تنتشر البساتين اليانعة في أطراف المدينة وتكتنفها بعض القرى الواقعة
على هذا السهل القريبة من بعضها البعض حيث تشرف عليها الروابي والقريبة من الحدود.
ويسقي بساتينها ومزارعها (وادي كنكير) الذي ينبع من (هيوان) ويمر في
(سومار)أو(سمبار) الإيرانية،حيث يجتاز الحدود مخترقاً جبل حمرين ويصب في السهل بعد
أن ينقسم الى عدة جداول ليسقي المزارع البساتين.
ويرجع تاريخ
المدينة الى أكثر من 6000 عام قبل الميلاد وعموما فأن هذه السهول التي تقع تحت
التلال والجبال تعتبر عادة أول من ما أستوطن الإنسان بعد هجرته للكهوف في
الجبال،ثم ظهور المدنية الأولى على تخومها والتي توجتها السومرية كأول حضارة
مثقفة،يمكن الإستدلال على ملامحها. وقد أكدت الحفريات التي قامت بها الحكومة
العراقية عام 1966 وجود مدينة عامرة يستعمل النهر في معاشها وفيها بيوت وحياة
متحضرة. وقد كانت بساتينها مرتعا للدول الفارسية المتعاقبة والسلوقية حتى قدوم
الفتح الإسلامي حيث وردت في كتب المؤرخين العرب بأسم (البندجين) الموروث من تلك
الحقب. حيث قال عنها ياقوت الحموي في معجمه (بلدة مشهورة من طرف النهروان من ناحية
الجبل من أعمال بغداد. . وقد خرج منها خلق من العلماء محدثون وشعراء وفقهاء
وكتاب). وقال عنها المرحوم العلامة
أنستاس الكرملي في مجلة لسان العرب إن الاسم الأصلي لها هو (وندنيكان) :إنها جمع
وندنيك الفارسية ومعناه (الملاكون الطيبون) وكان قد ذكرها هيرودوتس المؤرخ بأسم
(أردريكا) وقال عنها ان فيها عيون نفط.
وقد فتحها المسلمون صلحاً على يد (القعقاع
بن عمرو) بناء على أمر من الخليفة عمربن الخطاب،بعد فتح جلولاء وحلوان وخانقين وقد
ورد اسمها في الفتح (بندنيك). وهي متكونة من كلمتين فارسيتين (بند) ومعناها (حدود)
و(ينك) ومعناها (الطيب) وبذلك يكون المعنى (حدود الطيب) لموقعها بين السهل والجبل.
وقد ورد اسمها (طيسفون) كذلك وفي العهد العباسي وردت بأسم (لحف) أو (الكور) ومن
المعلوم أن المدائن القريبة منها بقيت محتفظة بأسمائها الآرامية وهم (بدرايا)
و(بسكايا) وحتى (بعقوبة)،بما يدلل على صفتها الثقافية.
لقد تبعت هذه
المدينة بغداد في التقسيم إبان العهد العباسي وأستمر حالها هكذا بعد سقوط بغداد
وحلول الدولة العثمانية لاحقاً. وقد حدث ما لا يحمد عقباه في تقسيم الحدود بينهم
وبين دولة الفرس القجرية في معاهدات (أرض روم) والحدود المرسومة عام 1905الفاشلة
التي لم تحترم في وضعها ابسط شروط التقسيم البشري والجغرافي بين البلدين الذي عاد
وبالا بعد ذلك في تركة مرة ورثتها السلطة العراقية والتي أدت الى حروب وانتهاكات
في تحديد هوية قاطني المنطقة الذين بقوا في داخل ايران ويمتون صلاتهم العائلية
بالعراق،وأكثر مثال ملموس في تلك المعضلة هو وضع العراقيون (الفيلية) الذين جاءوا
من (بشت كو)أي ظهر الجبل ووسموا بانتمائهم الإيراني بالرغم من عدمه.
لقد جرى حينئذ
وضع الحدود بحيث أعطيت منطقة (سومار) الى أيران مقابل (هورين شيخان)و(قوتو) أعطيتا
للعراق. ووضع مندلي يدخل في تلك الفوضى التي كانت إحدى ضحاياها، حيث ان المدينة
تقسمت الى أشلاء على جانبي الحدود وقد كانت حدود المدينة تقع حتى (دير اله) داخل
الحدود الإيرانية اليوم وما يدلل على ذلك هو وجود مخفر داخل عمق الأراضي الإيرانية
يسمى (مخفر العثمانيين) وكان لها عدة قرى تحمل أسماء عراقية مثل (طيب)
و(بيات). ويتذكر المسنين من أهل
مندلي أو الناقلين عنهم بان عندما كانت تتقوى العشائر الواقعة داخل الحدود الايرانية
على حكومتها المركزية من أمثال رئيس عشيرة (كلهور) أو لورستان وتهرب الى داخل
العراق فيستغل الاهالي مجئ الامير أووالي (بشتكوه) ليتفاوضون معه مستغلين مجيئه
للصيد قرب مندلي وبعد شئ من الرشوة يغض الطرف عن تقنين قدوم المياه الوارد اليها
وكذلك عودة هؤلاء دون عناء يذكر.
وقد أدى ذلك
الى قطيعة مندلي مع محيطها الطبيعي ومصادر ورود الماء إليها من وراء الحدود الذي
تحكمت به السلطات الإيرانية لتغير مجراه الى داخل أراضيهم. ولاسيما بعد ان جعل رضا
خان شاه ايران بساتينه ومزارعه الواقعة على الحدود في منطقة (سومار) تسقى بالماء
كله الذي كان مخصصاً لمدينة مندلي ومحيطها القروي الذي أدى الى أن تعاني المدينة
من شحه الماء وما تبعه من الفاقة ورحيل الناس عنها باتجاه المدن القريبة وتتبع
مندلي إداريا ناحية بلدروز ويمكن ان يكون اسمها محرفاً عن أسم (براز الروز) التي
ذكرها ياقوت في معجمه. وهي تقع على النهير الذي يحمل اسمها بين بعقوبا ومندلي
وأهلها من الناطقين بالعربية ومن الطريف في ان اراض كثيرة فيها كان يملكها السلطان
عبدالحميد التركي وقد فوضها الى صيرفي يوناني اسمه(ظريفي) بسبب دين له على الحكومة
العثمانية وكان يوكلها لأخرين غيره. وقد استمر الحال هكذا حتى العام 1937 حين بيعت
أراضيها لملاكين من بغداد والكاظمية.
وتحتوي مدينة
مندلي على ستة أحياء كبيرة وأكبر المحلات هي (قلعة جميل بك) ومحلة (بوياقي)
وسكنتها غالبيتهم من الترك ومحلة (قلم حاج) وعحلة (سوق الصغير) وغالبية سكانه من
الفرس و(سوق الكبير) وغالبية سكانه من الكرد و العرب. ونلاحظ هنا اللحمة
الاجتماعية الذي يشكلها الفسيفساء العرقي (الكرد والترك والعرب والفرس) يقطنون
منطقة صغيرة ولتمثل مندلي بذلك أجمل صورة الفتها ذاكرتنا عن المجتمع العراقي
"أيام زمان" عندما تحابوا الجميع في كنفه ورتعوا بخيراته ولم يفرقهم أي
شئ.
وتقاليد أهل
مندلي تشبه كثيراً تقاليد (اللور الفيلية)، ومن أغرب ما يحتويه مجتمعها فرقة دينية
إسلامية عددها اليوم حوالي الأربعة آلاف نسمة تدعى (العلي اللاهية) ويقال لها هنا
(القلم حاجية) نسبة الى أسم الحي الذي يقطنوه. وهم يعتقدون بأن الامام علي بن أبي
طالب(ع) يصلي عنهم ويعوض تركهم لها أما صيامهم فلدى شيوخهم تفسير فحواه أنه ورد
بصيغة كردية نصها(سه روز) أي ثلاثة أيام وليس (سي روز) أي ثلاثين يوما. وهم عادة
مايطلقون لحاهم ويتجنبوا النجاسة كافة.
وتحتوي منطقة
مندلي على مناطق أثارية تعود الى حقب تاريخية مختلفة نذكر منها (جيجكان) الواقعة
شمال قصبة المدينة و(كوكتية) ومعناها بالتركية (التل الاخضر) و(تل تمرخان) ومنطقة
(دوجكا) التي تعني بالكردية (التلان). وقلعة (كونة) ومعناها بالكردية (القلعة القديمة)
وكذلك أثار (المدينّة) و (جكامامي) و(كناري) و(قلعة سفيد) وهي اثر ساساني ظاهر
ومعناه بالفارسية (القصر الابيض).
تنتظر مندلي
البحث الحثيث عن أثارها وسابق تأريخها المرتبط حتماً مع حضارة الرافدين والأمل
معقود على جعلها مدينة حدودية نموذجية تكرس التعاون على جانبيه بصفاء النوايا
والمصلحة المشتركة. ناهيك عن منزلتها النموذجية في مدن العراق وذلك بامتزاج الملل
والنحل في ظلال أزقتها وأشجارها.