محافظة ذي قار (الناصرية)
مدينة
الناصرية، من امهات المدن العراقية الضاربة جذورها في اعماق التاريخ. من هنا بدات
الحضارة والعمارة وعمت في الأرض قاطبة. وهنا قامت حضارات (العُبيّد) ثم (اور)
و(اريدو)و(لارسا) و(اوروك) والأخيرة يعتقد بأنها مصدر اسم "العراق" الذي
اقتبس من منها. لقد تلاقحت في هذا الموضع ذرى العبقرية العراقية في (سومر واكد
والكلدان)،ومن هنا خرجت الديانات فها هو ابراهيم الخليل يخرج من بقاع الناصرية عام
1805 ق. م لينشر الفكر التوحيدي الذي تكرس بالديانات الثلاث وعم الأرض حتى يومنا
هذا. وذكر علي الوردي بان قبيلة قريش التي جاء منها نبي الإسلام (ص) قد وردت في
العصور الخوالي من موضع اسمه "كوسي" من هذه البقاع.
وعندما سطع
نورالاسلام كان لهذه الأرض شرف وقوع أول المواجهات لنشر الدين خارج الجزيرة
العربية وقد اسماها العرب (ذي قار) وهي صفة لاراضيها التي تنضح النفط والقار. ثم
قامت على مقربتها البصرة والكوفة أول حاضرتين إسلاميتين و نشطت فيها الحركة
الفكرية المعاضدة للمناهج السياسية في الإسلام كالشيعة والزيدية والاسماعيلية
والصوفية والمعتزلة والاباضية والقرامطة.
وفي القرون
الثلاث المتاخرة اطلق عليها المنتفق وهو اتحاد عشائري مركزه أمارة تمتد سلطتها حتى
قطر اليوم وتتحكم في جل جنوب العراق. وهنالك عدة روايات في أسباب تسميتها بالمتفق.
فمن المؤرخين من يرى ان (اتفاق) عشائر المنتفق إلثلاث "بني مالك وبني سعيد
والاجود" كان سببا لهذه التسمية، ومنهم من يرى ان جد بني "المنتفق"
كان يحترش اليرابيع قبل الإسلام "أي يخرجها من نافقائها" على حين يقول
آخرون أن هذا الجد كان يقيم في نفق " شبه مغارة " لشدة الحر، فقيل
لجماعته المنتفقة. وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته أن بني عامر "المنتفق"
قد خلفوا القبائل التي هزمت الفرس يوم ذي قار، وذكر إبراهيم الحيدري في كتابه
"عنوان المجد" أن قبائل "المنتفق" بطن من ربيعة بن صعصعة من
العدنانية. ومن ضمن هذه قبيلتان مشهورتان، هما بنو أسد و بنو خيكان.
لقد كانت ديار
المنتفق إقطاعية تقطع على زعيم "ال سعدون" والذي بدأت تقلمه السلطات
التركية ابتداءا من العام 1851 حينما أفرزت منها "السماوة". ثم تلاه
تدخل الوالي مدحت باشا عام 1869 حينما قدم الى الشيخ ناصر باشا السعدون وأبان له
خطة التجدد و الرغبة في تحويل المشيخة الى متصرفية مع بناء حاضرة في المنتفق تسمى
الناصرية - على اسم الشيخ ناصر- وعدد له حسنات الاستقرار والعدول عن الحل
والترحال. فاختير لها موقع على الفرات وعلى تخوم بحيرة (ابو جداحة) النتألقة ليلا
بسبب وجود مكامن فسفورية كبيرة فيها واستدعي لذلك المهندس البلجيكي (جوليوس تلي (JULIUS TILLY فخطط المدينة
المقترحة تخطيطا عصريا كما هو سار في مدن اوربا القرن 19 بشوارع عريضة متقاطعة
تقاطعا عموديا(رقعة الشطرنج)،ثم اقام صرح فخم لمحكومة وكان أول أبنية أقيمت فيها
وكانت هذه البناية لا تزال ماثلة للعيان حتى سنة 950 1 وهي بذلك أول مدينة عراقية
حديثة على الأسلوب الغربي الذي فتح الباب واسعا لتغريب المدن. واخذ الأعيان يبني
كل منهم له بيتا او منزلا و"كان أول من بنى فيها دارا للسكنى نعمة الله نعوم
بن هاكوبيان بن سركيس التاجر الأرمني المتنفذ في بغداد التركية. وعين ناصر باشا
السعدون متصرفاً على اللواء المذكور.
وتقوم مدينة
(الناصرية) اليوم على ضفة الفرات اليسرى في موضع يبعد بالقطار عن جنوبي بغداد 387
كيلومترا وعن شمالي البصرة 214 كلم ويصلها بالسكة الحديدية. ويتعاطى السواد الأعظم
من الآهلين التجارة وصيد الأسماك ومناخها صعب المراس مما جعل الحالة الصحية غير
مرضية و ترى مياه "النزير" تظهر أيام الفيضان حتى في الشوارع المزفتة،
أما أيام انخفاضه (أي عند الصيهود) فإن طعم الماء يقترب من المجاجة. وسكانها خليط
من مختلف العشائر والمدن العراقية ناهيك عن المهاجرين النجديين الذين قدموا أوقات
الجفاف الشدة عند ملاحقة الوهابيين لهم، بحيث تشكل الحالة الاجتماعية فسيفساء من
النحل، ومع ذلك ترى الروح القبلية غالبة، مع حالة من الإيثار ولطف المعشر وانفتاح
السرائر غالبة فيها.
شهدت الناصرية
أحداث جسام وانتفاضات ضد الظلم منذ قرون مما جعلها غير عامرة ومتطورة باضطراد
ومنها في القرن الماضي مثلا أحداث 1914، 1920 و 1935 وأخرها الانتفاضة العراقية
عام1991. التي جعلت المدينة في مهب الريح، ولكن مستقبل الناصرية زاهر بدون ريب لما
تحتويه من غناء المصادر الطبيعية من المعادن إضافة الى السياحة التاريخية التي لا
ينافسها بها أحد.