جنان خضير منصور - باحثة آثار / العراق
ياقوت الحموي: واسط اكتسبت اسمهما من موقعها الوسط بين
البصرة والكوفة والأحواز
اختار الخليفة الاموي
عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي اميراً علي العراق والمشرق الاسلامي في سنة
75هـ/694م فكان بذلك قد اختار اكفأ رجال دولته لمواجهة خطر الخوارج في الشرق واعادة
النظام والاستقرار في العراق. ووصل الحجاج الكوفة في شهر رجب من تلك السنة.
فأقام بها فترة ثم غادرها الي البصرة، عندما بدأت الثورات عليه في العراق اخذ
يتنقل بين المصرين، حسبما تقتضيه الظروف الحربية والسياسية آنذاك، التي هددت بالقضاء
عليه اكثر من مرة، لقد كان ذلك احد الاسباب المهمة والمباشرة التي دعت الحجاج
الي التفكير جدياً ببناء مدينة تكون مقراً لادارة ولايته الواسعة يطمئن بها علي
نفسه واعوانه، ويجمع فيها العناصر الموالية له وفي مقدمها العناصر الشامية،
ليتمكن من اخماد كل ثورة تقوم عليه في المستقبل، فقد ذكر بحشل (وليّ عبد الملك بن
مروان الحجاج العراق فأقام بها سنة فقال: أتخذ مدينة بين المصرين اكون بالقرب
منهما، اخاف ان يحدث في احد المصرين حدث وانا في المصر الاخر فمر بواسط القصب
فأعجبته، فقال. هذا وسط المصرين) ويذكر الطبري سبباً اخر لبناء مدينة واسط يتمثل في رغبة
الحجاج تجنب الاحتكاك بين جند الشام وسكان المدن العراقية (البصرة والكوفة). وقد
يكون الحجاج قصد من انشاء واسط ابعاد الجند الشاميين من التأثر بالحياة
الاجتماعية والسياسية في البصرة والكوفة بما فيهما من ترف، وتيارات سياسية مختلفة، وبذلك
يحافظ علي روحهم العسكرية وانضباطهم وعدم انتقال روح الثورة والتمرد اليهم،
اضافة الي ماتقدم يذكر انه عندما جاء الحجاج العراق وجد ادارة كل من مدينتي البصرة
والكوفة مفصولة عن بعضها، فكان عليه ان ينتقل في اقامته بينهما، فرأي من حسن ادارتهما ان
يتخذ مكانا وسطاً بين هاتين المدينتين يكون مقراً لحكمه، يؤمن منه السيطرة الكاملة
عليهما، ويشرف علي اعمال سكانهما. فاختار موضع واسط وبني مدينة فيه، وبذلك اصبحت
مدينة واسط مركزاً ادارياً للإشراف علي ادارة البصرة والكوفة.
ان اختيار موقع واسط
جاء بعد بحث وتدقيق واسعين، فقد ذكر ياقوت الحموي ان الحجاج قال لرجل ممن
يثق بعقله: امض وابتغ لي موضعاً في كرش من الارض ابن فيها مدينة وليكن علي نهر جار،
فاقبل ملتمساً ذلك حتي سار الي قرية فوق واسط بقليل يقال لها واسط القصب، فبات بها
واستطاب ليلها واستعذب انهارها، واستمرأ طعامها وشرابها فكتب الي الحجاج بالخبر ومدح
له الموضع، فكتب اليه: اشتر لي موضعاً ابني فيه مدينة، واشتري الحجاج موقع المدينة
من صاحبها وهو احد دهاقين الفرس من(داوردان) بعشرة الاف درهم، ووعد بأن يرعي
جواره ويقضي ذمامه ويحسن اليه.
وربما يكون من الاسباب الاخري للاختيار هو موقع واسط الجغرافي الممتاز اذ تقع
علي نهر دجلة من جهة وتتوسط بين الكوفة والبصرة والمدائن والاحواز من جهة اخري،
حيث تقع علي طرق التجارة النهرية والطرق البرية التي تجعل من المدينة ذات مركز تجاري
مرموق بالاضافة الي الاراضي الزراعية الخصبة المحيطة بها. اما عن سبب تسميتها بهذا
الاسم، فقيل سميت واسطاً لان الموضع الذي اختاره الحجاج لبناء مدينته كان يسمي واسط
القصب فسميت نسبة لذلك.
وذكر البلاذري: ان
ارضها كانت ارض قصب لذلك سميت واسط القصب.
اما ياقوت الحموي فيذكر
في معجمه: سميت واسطاً لان موقعها وسط بين البصرة والكوفة والاحواز فهي تبعد بمقدار
خمسين فرسخاً عن كل من المواقع الثلاث. واني أميل الي الرأي الاخير حيث انه اكثر
الآراء انطباقا علي واقع حال المدينة.
بناء المدينة
امـا عن تاريخ بناء
المدينة فقد اختلفت المصادر في تحديده، إلا ان معظمها يجمع علي ان عملية
البناء تمت بين الاعوام 83هـ ــ 86هـ/ 702 ــ 705م أي في أواخر حكم الخليفة عبد الملك
بن مروان الذي استأذنه الحجاج في انشاء المدينة. واني ارجح بناء مدينة واسط سنة
83هـ/702م معززين الرأي بما وصلنا من مسكوكات فضية (دراهم)،مضروبة بهذه المدينة
حيث تعتبر المسكوكات وثائق اساسية ومهمة جداً يعتمد عليها في تتبع مسيرة التأريخ وفك
الاشكالات والتداخلات التي يقع فيها كتابه. ويحتفظ المتحف العراقي بدرهم فضي
مضروب بواسط سنة 83هـ، كما ويحتفظ بدرهم اخر من ضرب سنة 84هـ. وهذا يقدم لنا دليلا
علي ان بناء المدينة كان قبيل عام 83هـ واخذت تستكمل بعد ذلك مرافق المدينة حتي
عام 86هـ.
لقد وصفت واسط بناء وتخطيطاً
بأنها كانت تقع علي الجانب الغربي لنهر دجلة يقابلها علي الجانب الشرقي مدينة
قديمة تسمي كسكر. وقد ربط المدينتين جسر من السفن علي كل جانب من جانبي النهر
جامع، وكان يحيط بالمدينة سور وخندقان، إلا ان بحشل يذكر انه كان للمدينة سوران
وخندق.
وبني الحجاج في الداخل
قصره الذي اشتهر بقبته الخضراء العالية التي كانت تري من مدينة فم الصلح الواقعة علي بعد
سبعة فراسخ شمال واسط، واقيم القصر فوق مساحة من الارض مربعة الشكل ابعادها
اربعمائة ذراع في اربعمائة ذراع وكان له اربعة ابواب كل منها يفضي الي طريق عرضه ثمانون
ذراعاً.
والي جانب القصر بني
المسجد الجامع علي عادة تخطيط المدن العربية الاسلامية وكانت
مساحته مائتي ذراع في مائتي ذراع، وجعل علي مقربة من القصر سوقا عامرة،
كان فيها تجار لكل صنف من اصناف البضائع يتعاطون تجارتهم في قطعة خاصة لا يخالطهم
فيها احد، وامر ان يكون مع اهل كل تجارة صيرفي لتسهيل معاملاتهم المالية، وكان في
الجانب الغربي ايضاً سجن الحجاج المعروف ب (الديماس).
ويذكر ان الحجاج هدم
لعمارة مدينته كثيراً من المدن والقري المحيطة بها ونقل اخشابها وابوابها حتي ضج اهل تلك
النواحي واحتجوا علي ما جري فلم يلتفت الي اقوالهم، وقد نقل الحجاج الي مدينته
خمسة ابواب من مدن الزندورد والدقورة ودير ماسرجيس وسرابيط وغيرها من الامكنة التي
كانت تحيط بواسط.
ونجد ان تخطيط مدينة واسط
قد اثر في تخطيط مدينة السلام في ما بعد. ان اقتباس تصميم مدينة السلام من مدينة
واسط ما هو الا دليل علي حسن هندستها وتنظيم ادارتها من قبل اميرها الحجاج.
اما تكاليـف بناء مدينة
واسط والمتمثلة بالاجزاء الرئيسة، كالقصر والمسجد الجامع والسور والخندقين فقد بلغت
كما ذكر بحشل: ان ما أنفقه الحجاج قد بلغ خراج العراق لمدة خمس سنين. وان كان التقدير
مبالغاً به الاانه يدل علي ان بناء مدينة واسط قد كلف اموالا كثيرة. في حين
يذكر ياقوت الحموي: انفق الحجاج علي بناء قصره والجامع والخندقين والسور ثلاثة
واربعين الف الف درهم، فقال له كاتبه صالح بن عبد الرحمن هذه نفقة كثيرة وان
احتسبها لك امير المؤمنين وجد في نفسه فقال فما نصنع؟ قال: الحرب لها اجمل فاحتسب منها
في الحروب باربعة وثلاثين الف الف درهم واحتسب في البناء تسعة الاف الف. ومن
المحتمل ان الحجاج احس بوطأة عتب الخليفة عبد الملك بن مروان واستكثاره لتلك النفقات، حيث
كان يبعث الي الحجاج الرسالة تلو الاخري يلومه فيها علي اسرافه في الاموال.
وبعد ان سكن احجاج مدينته الجديدة، اسكن الي جانب جنده الشامي مجموعات اخري
من السكان العرب من وجوه اهل البصرة والكوفة. كما كان الحجاج لايدع احداً من اهل
السواد يبيت بواسط اذا كان الليل اخرجوا عنها ثم يعودون بالغداة في حوائجهم،
كما انه جعل علي كل باب من ابواب المدينة حرسا، فاذا كان المغرب رجع من كان
خارج المدينة وخرج من كان بالمدينة من اهل السواد، وبذلك حرم علي الغرباء المبيت
داخل مدينته حيث كان عليهم ان يتركوها قبل اغلاق ابوابها عند المغيب.
ان هذه الاجراءات التي
اتخذها الحجاج في مدينة واسط ما هي الا دليل علي اهتمامه بأمن
وطمأنينة سكانها.
شهدت مدينة واسط في عهد اميرها
الحجاج نمواً وازدهاراً سريعين واقبل الناس علي سكناها، وقد وضع هذا الامير قوانين
صارمة للمحافظة علي جمالها.
لقد كان الدافع الاول
لبناء الحجاج مدينة واسط هو الدافع العسكري، لكن في الوقت ذاته لم يغفل
الحجاج الجوانب الاخري حيث عمل علي ان يكون موقعها ملائماًَ من النواحي
السياسية والاقتصادية والصحية.
فمن حيث الموقع
الجغرافي تعد واسط جسراً يربط بين المشرق وأواسط آسيا والصين من جهة وبلاد الحجاز
والشام من الجهة الاخري.
اما من الناحية
السياسية فقد كانت المدينة مركزا لادارة العراق والمشرق الاسلامي وكان الامير
فيها يشرف علي ادارة جميع المقاطعات في المشرق والعراق. وبما ان هذه المقاطعات كانت
تتبع واسط سياسياً فقد ادي ذلك الي شهرة المدينة في تلك المقاطعات ومن ثم زادت الثقة
بتجارتها. كما ان اهتمام الحجاج وخلفائه من بعده بأمر المسكوكات واتخاذه داراً
للضرب فيها قد زاد بلا ادني ريب من اهميتها. ومن الجدير
بالملاحظة انه لا المؤرخين ولا المنقبين الاثاريين تمكنوا من تحديد مكان
دار الضرب فيها فقد جرت عادة الباحثين في هذا المجال ان يضعوا مكانها قرب دار الامارة
حالها حال بيت المال لما يحتويانه من معدن ثمين واموال لتوفير الحماية الكافية
لهما.
كما أولي الحجاج
الناحية الصناعية اهتماما كبيراً فادي ذلك الي قيام صناعات فيها
ونموها وذلك لسد حاجة السكان الاستهلاكية، ومن ابرز الصناعات التي
قامت بهذه المدينة، صناعة النسيج وصناعة الخزف والفخار، اضافة الي وجود
صناعات مختلفة مثل الحدادة والنجارة والضياغة وصناعة الاسفاط والحصر.
وهكذا وصلت واسط الي
المكانة المرموقة التي ارادها لها اميرها الحجاج قائلا: واسـط جنة بين حماة
وكنة. . البصرة والكوفة يحسدانها ودجلة والفرات يتجاذبان بافاضة الخير عليها.
ولقد قدر لهذه المدينة
ان تلعب دورا حضاريا وسياسيا كبيرا في تاريخ العراق حيث اصبحت لفترة
طويلة من الزمن مركزا اقتصاديا مهماً. وانجبت العديد من اعلام
الحركة العلمية في العراق. الا ان هذه الاهمية تضاءلت نسبيا بعد انشاء مدينة
السلام، وان احتفظت بمركزها التجاري لقرون عدة.
وظلت كذلك حتي افل
نجمها بسبب تعرضها للغارات الخارجية وتحول مجري نهر دجلة الغربي عنها الي مجراه الشرقي الحالي في
القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) حيث هجرها سكانها وتحولت بعد ذلك
الي انقاض وبقايا خرائب لاتزال آثارها ماثلة حتي الان.