سركون بولص. . كركوك في القلب. .
حوار صلاح عواد ـ سان فرانسسكو
من بين جماعة كركوك الادبية في الستينات، برزت اسماء
عدة من العراقيين الناطقين بالسريانية، مثل الشاعر وراعي الادباء (الاب يوسف سعيد)
والشاعر العبثي الراحل (جان دمو)، وكذلك الشاعر العراقي الاصيل والمتميز (سركون
بولص). هنا مقاطع تتعلق بكركوك من
حوار طويل:
منذ فترة تزيد على عشرين عاما يقيم (سركون بولس) في
مدينة سان فرانسسكو، هذا الشاعر المنحدر من مدينة كركوك حاول مع أقرانه حين وصلوا
الى بغداد في الستينات تغيير خارطة الشعر العراقي، وفي إحداث ثورة بأساليبه
وتقنياته ضمن مشروع يريد تجاوز ما انتجه جيل الرواد الشعري جيل قصيدة
التفعيلة.
ومن بغداد حمل سركون مشروعه الشعري، حيث توقف في بيروت
وتعرف على تجربة مجلة شعر اللبنانية وساهم في تحريرها وترجم العديد من النصوص
الشعرية من اللغة الانجليزية، خصوصا لشعراء القارة الامريكية. وخلال الأعوام التي قضاها في سان
فرانسسكو بقي سركون مخلصا للشعر ولترجمة الشعر، وأثناء تلك الإقامة الطويلة التي
قرر أن ينهيها بالذهاب الى أوروبا خصوصا الى لندن وباريس طور سركون تقنياته
الشعرية، وصارت اللغة لديه أكثر حسية.
فهو بالرغم من اقامته الطويلة في الولايات المتحدة لم يتخلص من لهجته
البغدادية وبقي نفس القروي ذلك القادم من كركوك.
يقول عن مدينته كركوك في حواره الطويل:
هناك فرق كبير بين كركوك وبغداد.
فكركوك مدينة غريبة التركيب من حيث الأجواء الاجتماعية ومن حيث الأقوام
التي تسكن فيها، ذلك الخليط العجيب المتكون من العرب والآشوريين والأكراد والأرمن
والصابئة ومن الاجناس العتيقة التاريخية التي وجدت نفسها في الشمال، حيث ان
المدينة كانت دائما منبعا إنسانيا متنوع اللون والشكل. وهو منبع لا ينتهي لغرابة اللغات المتبادلة بين تلك الأقوام،
بينما بغداد هي بغداد وهي شيء آخر ولها طابع يعرفه كل من عاش في تلك المدينة. وكركرك بالنسبة لي هي بداية الكتابة
وكانت المنبع والمكان الذي فتحت فيه عيني على مواقف الشعر. وعندما ذهبت الى بغداد كان تركيبي الشعري
قد ثبت وتصلب تقريبا حتى ولو كانت بغداد هي المنبر الحقيقي والمكان الأوسع روحا
والاكثر امتلاء بالحياة عندما وجدت نفسي فيها. لقد كتبت عن كركوك في كل كتبي وفي شكل خاص في كتابي الأخير
«الأول والتالي» وفيه قصيدة اسمها نهار في كركوك. وهي قصيدة تعبر بالضبط عن صورة كركوك التي لا زالت تلازمني،
وهي قصيدة كتبت في أمريكا بسان فرانسسكو.
القورية
(ساحة أحمد آغا)
كانت بغداد بالنسبة الي الخروج من الأحلام والسقوط في حلم آخر كبير. فبغداد هي الحلم وكنا نحلم نحن شعراء
المدن النائية كمدينة كركوك بتلك الروضة المليئة بالنيون والمليئة بالملذات كما
كنا نتخيلها نحن القرويون تقريبا، ذلك لأن الكركوكي بالنسبة للبغدادي في الفترة
التي أتحدث عنها وهي فترة الستينات كان نوعا من القروي، وهو يمثل التفكير الريفي
بالنسبة للتفكير المديني الذي كان يجسده رجل العاصمة حيث الحانات وحيث الانفتاح من
الناحية الاجتماعية في الجنس والنساء والحب. فبغداد أكثر تحررا من مدينة مغلقة اجتماعيا مثل مدينة كركوك،
كبقية المدن الأخرى الصغيرة حيث الحب مثلا كان شيئا سريا وخفيا ومازال حتى
الآن. وكنا نحلم ببغداد وكأننا إذا
وصلنا سنكون قد وصلنا الى واحة كبيرة بالحياة. في تلك الفترة كانت بغداد مليئة بالشعراء وكان جيل الستينات
الذي جاء من جميع أطراف العراق ربما كان مدفوعا بنفس الحلم ومتبعا نفس الخطي
مكنا. وجد ذلك الجيل نفسه في
المقاهي حيث النقاش السياسي والثقافي دائر ليل نهار، وكنت تجد نفسك في معركة سحرية
جميلة يشارك فيها العشرات من الشباب وكانوا هم من أدرك إن الثقافة ليست مجرد لعبة
ايديولوجية كما كانت مثلا عند الرواد، وانما هي حلم أكبر من ذلك وأكبر من أن
تتداول مفاهيم معينة كالثورة والثقافة والشعر، لأن العالم كان كله يلتهب ويفلي
بالنسبة لهؤلاء الشباب ويجعلهم يحسون أن طاقتهم جديدة تماما وينبغي أن تكون ثورية
ومختلفة بشكل آخر بالنسبة عما سبقهم.
ونتيجة لذلك الاحساس وليس التفكير الذي كان يشكل حساسية معينة كان هو الذي
ميز شعراء الستينات عن الشعراء الذين سبقوهم وجعل شعرهم وكتاباتهم روضتهم الى عالم
أكثر حداثة وانفتاحا.
ان جبرا ابراهيم جبرا (المبدع
الفلسطيني العراقي)، كان بالنسبة لي ولشباب آخرين أبا حقيقيا. وكنت أسبح وأعبر جسر الجمهورية كل يومين
أو ثلاثة من الاسبوع، كان بالنسبة لنا أيضا مصدر رزق حيث كان ينشر لي ولرهط من
الشعراء المفلسين من بينهم جان دمو الذين كانوا يتوافدون يوميا على مكتب جبرا
ابراهيم جبرا في مجلة،" العاملون بالنفط ". كان جبرا أبا روحيا بالنسبة لي وكنت أتحدث معه لأنه كان واحدا
من العقول النيرة التي استطيع أن أتحدث معها عن اكتشافاتي في الأدب العالمي التي
كنت أقرأه بنهم وكنت مذهولا بالأدب الغربي.
وكان جبرا ابراهيم جبرا الكاتب والمترجم والشاعر شخصية فذة، كأنه واحد من
شخصيات النهضة الأوروبية العظيمة كدافنشي، التي لها إحاطة بالعلم والأدب والفن
والتيارات الفكرية الأخرى، إنه ليس شاعرا أو كاتبا فقط وانما هو بالنسبة لي كان
شخصية عالمية. وانا عرفته عندما
اكتشفت انه يحرر مجلة «العاملون بالنفط» وكنت آنذاك في كركوك وعرفت أن المجلة تدفع
مكافأة مالية كانت متواضعة غير أنها بالنسبة لي آنذاك غير متواضعة، فالدنانير
الثلاثة أو الخمسة التي تدفعها كانت كافية لليلتين أو ثلاث في حانة مع عشرة شعراء
مفلسين.
كان جبرا بالنسبة لي المثال العظيم وهو الذي قام بترجمة شكسبير وآخرين وكنت
معجبا بترجماته لشكسبير فهو كان مثالا للمترجم الحق. وأقول لك قصة أنه عندما تركت بغداد للذهاب الى بيروت والتقيت
بجبرا ابراهيم جبرا في مكتبه ببغداد في كرادة مريم أعطاني مخطوطة الملك لير مطبوعة
على الآلة الكاتبة كي أوصلها الى يوسف الخال ببيروت لغرض نشرها في دار
النهار. وكان جبرا لا يعرف وأقول
هذا للمرة الأولى بأنني كنت ماشيا عبر الصحراء على الأقدام وكان يعتقد بأني ذاهب
كأي مسافر بالطائرة أو بالسيارة الى بيروت، ولم يدر بخاطره هذا الأمر حتى وفاته. ولم أقل له بأني حملت مخطوطة الملك لير
معي في حقيبتي عبر الصحراء وفي أحقر الفنادق بحلب وحمص ودمشق وعبر الحدود السورية
اللبنانية ومع مهربين مغامرين حتى وصلت بيروت وسلمت مخطوطة الملك لير الى يوسف
الخال ونشرتها دار النهار.