سينمات كركوك وأيام
المتعة في الظلام. .
نصرت مردان ـ
جنيف
منذ أن وعيت، كانت كركوك تمتلك أربعة دور للسينما : غازي، الحمراء، العلمين،
أطلس. ثم أضيف لها بعد سنوات سينما
الخيام وسينما صلاح الدين.
بدأ ولعي بالسينما في سن مبكرة، حيث كانت
أصوات الأفلام تصل من دور السينما الصيفية إلى سطح منزلنا القديم. وكنت في تلك السن أبحث في جيوب أبي بعد
عودته مساءا إلى البيت من المقهى عن إعلانات السينما التي كانت توزع في الشوارع من
قبل مناد تابع لأحد دور العرض. حيث
كانت لكل دار مناد وعربة خاصة تحمل ملصق الفيلم. وكان أشهر مناد على الإطلاق في كركوك هو (رزوقي) الذي كان يصرخ بصوته الجهوري :
سينما العلمين. برت كستر. فيلم الأباشي. بوكسات، معارك، ملون اسكوب.
في ذلك الزمن الجميل الذي لم يكن عالمنا قد تحول بعد إلى قرية
بائسة، كان الجمهور يعبر عن تفاعله مع البطل وانفعاله بالأحداث بشتى الطرق. فحينما كان (الكابوي) يظهر مسرعا على
حصانه لإنقاذ البطلة، كان الجمهور يشجعه مصفقا. وكان الجمهور يصفر محذرا البطل حينما يأتي خلسة أحد الهنود
الحمر ليطعنه بمدية غادرة.
وان أنسى فلن أنسى فرحة جمهور كركوك الغامرة
في فيلم (طرزان) بطله (جوني ويسملر)
رجل الغابة الذي كان يعيش بين الفيلة ويصادق القردة (شيتا) دون أن يجيد الكلام. فكان لا بد لـ
(جيني) أن تعلمه التحضر ونعمة التكلم وهو ما حدث في أحد أفلامه، حيث أخذت
تدربه على الكلام قائلة :
ـ أنت طرزان. . أنا جيني. أنت
طرزان. . أنا جيني.
وكم كانت فرحة الجمهور طاغية حينما نجح
طرزان في نطق هاتين الجملتين بصعوبة :
ـ أ. . نا طرزان. أ. . نت
جيني.
هلل الجمهور وصفق بسعادة غامرة وهو يرى
طرزان ينطق ببطء في أول خطوة له للانضمام إلى حظيرة البشر، بفضل جيني.
طرزان وحبيبته جيني
في أيام العيد كانت السينمات في طفولتنا
ملاذنا الجميل، وكانت تعرض صباحا أفلام الكابوي أو طرزان أو هرقل أو شمشون الجبار،
بينما كانت عروضها المسائية التي
تحضرها العوائل، تكون غالبا فيلما مصريا أو هنديا . وكان من الطبيعي أن نشاهد أكثر من فيلم في تلك الأيام
السعيدة. في نهاية النهار حينما كنا
نجتمع في الحي كان كل منا يتحدث بالتفصيل عن الأفلام التي شاهدها.
ـ أنا شاهدت ثلاثة أفلام
ـ أنا شاهدت أربعة.
وكنا ننطلق من الصباح إلى دور السينما ندع
طفولتنا على سجيتها. وحينما كنا نرى
صبية في مثل أعمارنا يخرجون من إحدى دور السينما بعد انتهاء العرض. كان من الطبيعي أن نسألهم قبل شراء
التذاكر :
ـ كم (عركة) معركة في الفيلم ؟
ـ خمس.
يقلب أحدنا شفتيه دلالة على عدم الرضا :
ـ هيا بنا إلى سينما الحمراء ففي الفيلم
المعروض فيها، كما أخبرني فؤاد خمس عشرة معركة (عركة).
تفاعل حي بين الجمهور والفيلم
في تلك الأيام كانت السينمات المتعة الوحيدة
لنا. كنا نحس كلما ظهر محمود
المليجي أن شرا لا بد أن يلحق بالبطل محسن سرحان وعماد حمدي وكمال الشناوي الذي
كانوا رموزا للطيبة والأخلاق والتضحية.
تجلت نفس الرموز فيما بعد في شكري سرحان وعمر الشريف ومحمود ياسين ونور
الشريف وغيرهم فيما بعد.
وكان الجمهور لا يأبه كثيرا للجملة
التقليدية التي يقولها والد أحد البطلين :
ـ الجوازة دي لا يمكن تتم !
لعلمه مسبقا أن (الجوازة دي) ستتم رغم معارضة الأب القاسي، الذي قد يقوم به
الفنان العظيم زكي رستم. لكن
الجمهور كان يكون أكثر ارتياحا عندما يقوم بدور الأب سليمان نجيب أو حسين رياض أو
عبدالوارث عسر لعلمهم أن طيبتهم ستتغلب على عنادهم واعتراضهم ويقبلون لم شمل
العاشقين في نهاية الفيلم.
كما كان الجمهور يعرف مسبقا أن النور سيعود
إلى عيني فاتن حمامة أو مريم فخرالدين أو سميرة أحمد الكفيفتين قبل نهاية الفيلم. وأن يحيى شاهين أو محسن سرحان سينتصران
على الشلل. وان شكري سرحان أو عمر
الشريف أو محمود ياسين سيسترجع ذاكرته لا محالة. رغم ذلك كان الجمهور يتابع الفيلم بلهفة حتى نهايته
المعروفة لديه سلفا.
كانت القلوب في ظلمة السينما تخفق لكل ما هو
نبيل وجميل. لا أزال أتذكر كيف صفق
جمهور سينما أطلس بحماس منقطع النظير ليحيى شاهين في فيلم (هذا الرجل أحبه) وهو يخاطب ماجدة :
ـ الحب قوة. . الحب أقوى من الموت !
في ظلمة السينما، صفق كل من كان في قلبه
لوعة الحب والشوق إلى حبيبة القلب التي أغلقوا عليها الأبواب والنوافذ.
كانت لكل دار للسينما من سينمات كركوك
متخصصة في عرض نوعية معينة من الأفلام تقريبا. فسينما الحمراء كانت لها شهرة في أن
أغلب أفلام فريد الأطرش في الخمسينات كانت تعرض فيها. . بل بدأت كانت تعرض في الستينات حتى أفلامه القديمة. وكانت سينما الحمراء تضع قبل عرض الفيلم
أو أثناء الاستراحة (فترة) أغان
لفريد الأطرش وخاصة أغنية
(حبيبي). أما سينما العلمين
فان أغنية عبدالوهاب (خي. . خي)
كانت علامة مميزة لها إلى جانب أغنية عبدالحليم حافظ (فوق الشوك مشاني زماني. . قاللي تعال نروح للحب).
بينما سينما أطلس لم تكن تضع أية أغنية وكذلك سينما الخيام التي
بنيت في بداية السينات وكذلك سينما صلاح الدين التي بنيت في أواخر الستينات. أما سينما العلمين فكانت تعرض بشكل عام
الأفلام الأجنبية والأفلام الهندية ثم بدأت في الستينات بعرض الأفلام العربية إلى
جانب تلك الأفلام. واشتهرت
سينما أطلس بعرض الأفلام العربية والأجنبية المتميزة. ومن بين هذه الأفلام
(بين الأطلال اذكريني) لعماد حمدي وفاتن حمامة. كانت قاعة السينما عند عرض الفيلم تغرق في التأوهات والحسرات
أمام كل لقاء رومانسي بين البطلين.
وكان قلوب المشاهدين تذوب رقة وحبا وهو يسمع عماد حمدي يخاطب الشمس المائلة
إلى الغروب أمام الشجرة التي اعتاد اللقاء تحت أغصانها بحبيبة القلب فاتن حمامة:
ـ أيتها الشمس اشهدي على أن حبي لها خالد
كخلودك. . لكنك تغربين وهو لا يغرب
!
ولربما كانت العاشقات من بين مشاهدات
الفيلم، يشعرن بالأسى لأن حبيبهن ليسوا في رقة عماد حمدي، ولا يخاطبهن بنفس
عباراته الرقيقة التي تزيد نار الحب اشتعالا في القلوب العاشقة.
كما لا أزال أتذكر كيف قابل جمهور سينما أطلس عند عرض الفيلم العراقي (الدكتور حسن) تمثيل ياس على ناصر وسلمى
عبدالأحد، بطل الفيلم بالتصفيق عند حضوره عرض الفيلم، ولاحظت الفرحة والبهجة
تنعكسان على وجهه الذي كان يزداد احمرارا كلما ارتفعت حرارة التصفيق.
من الأفلام العربية المتميزة التي عرضت في
هذه الدار: في بيتنا رجل، لعمر الشريف وزبيدة ثروت وفيلم (ألمظ وعبده الحمولي) لعادل مأمون ووردة
الجزائرية. إضافة إلى أفلام أجنبية
قيمة مثل : زوربا، لأنطوني كوين وامرأتان، لصوفيا لورين وفيلم روما مدينة مفتوحة.
عبدالكريم قاسم يمنع الأفلام المصرية
لعل أول صدمة تعرض لها محبو الأفلام
المصرية، كان عند اتخاذ حكومة
عبدالكريم قاسم قرارا، بمنع استيراد وعرض الأفلام المصرية في العراق في عام
1960 ، كنتيجة للصراع السياسي الدائر
بينه وبين عبدالناصر. وقد ظل الحظر
قائما حتى سقوط عبدالكريم قاسم.
فجأة خلت دور السينما في كركوك من الأفلام
المصرية التي كانت سببا مباشرا لإقبال العوائل في كركوك على ارتياد دور
السينما. وبغيابها راجت أفلام
الكاوبوي الأمريكية والأفلام الهندية.
واستغل المنتجون اللبنانيون هذه المحنة، بعد أن أحسوا بشدة تعطش الجمهور
العراقي للفيلم المصري. فقاموا
بإخراج أفلام مسلوقة، تافهة لقيت إقبالا منقطع النظير، لسبب واحد لا غير : لأنها
ناطقة باللغة العربية. ومن غرائب
هذه المرحلة، هو استمرار عرض فيلم
(مرحبا أيها الحب) لنجاح سلام وسامية جمال وعبدالسلام النابلسي ويوسف
فخرالدين ومن إخراج محمد سلمان لمدة
25 يوما بالتمام والكمال في مدينة مثل كركوك، لم تكن يعرض فيها أكثر الأفلام
العربية نجاحا أكثر من أربعة أو خمسة أيام.
وقد ظل المرحوم محمد سلمان يفتخر بفيلمه المذكور لأنه حقق أرقاما قياسية عند عرضه في العراق كدلالة على عبقريته الفنية !. . تبع هذا الفيلم أفلام لفهد بلان وسميرة
توفيق وأفلام أخرى. لقد بلغ تعطش
الجمهور في كركوك إلى الأفلام العربية في هذه المرحلة إلى حضور حتى فيلم لوديع
الصافي باسم (أنا الحب) مع نجاح سلام،
والذي عرض في سينما العلمين، وبسبب هذا العطش تحمل الجمهور (الذي اعتاد على رؤية
عماد حمدي وشكري سرحان وعمر الشريف بدور العاشق) على مضض وديع الصافي، وهو يقوم
رغم صلعته الشهيرة بدور العاشق الولهان، ويغني في سيارة مكشوفة (دويتو) مع نجاح
سلام.
كان أول فيلم مصري يعرض في سينما أطلس بعد
سقوط نظام عبدالكريم قاسم هو فيلم
(يوم من عمري) لعبدالحليم حافظ وزبيدة ثروت. وكان الزحام خرافيا لا يصدق في سينما أطلس.
وعرض بعد فترة قصيرة فلم (يوم بلا غد) لفريد الأطرش ومريم
فخرالدين في سينما العلمين. وهو أول
مرة يعرض فيها فيلم للأطرش، كما عرض الفيلم في نفس الوقت في سينما الخيام. وكان بذلك أول فلم يعرض في دارين للسينما
بكركوك في آن واحد.
في تلك الأيام الجميلة وحينما كانت المنافسة
على أشدها بين فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ. وكان الخبثاء من جمهور الجانبين يحضرون هذه الأفلام فمثلا
عندما يظهر فريد الأطرش على الشاشة في أول لقطة من الفيلم يقابل من جمهوره
بالتصفيق والتهليل. لكن الأمر كان
لا يخلو أحيانا أن يرتفع (زيك ـ
عفطة) قوية بين أصوات التصفيق فيعلم الجميع أن صاحب (الزيك) هو أحد أنصار عبدالحليم حافظ . وقد يحدث عكس ذلك في فلم لعبدالحليم. أتذكر عند عرض أحد أفلام فريد الأطرش في
سينما الحمراء، حدث وان قابل أحدهم موال فريد الأطرش بـ (زيك) فما كان إلا أن رأيت رجلا ضخما يندفع في الظلام وفي يده
منفاخ دراجة (بامب) رفعه ليضرب به
على رأس المتفرج الذي لم يبد الاحترام لفنانه المفضل صارخا في وجهه :
ـ يا كلب هل (عفطت) للأستاذ ؟
تخاذل صاحب (الزيك) قائلا :
ـ لا يا أخي أنت غلطان.
وبعد أن أقسم أنه ليس بالفاعل، انزل الرجل
المنفاخ وذهب وهو يتمتم متذمرا.
السينمات ضحية مجزرة كركوك
بعد أيام الرماد والقتل المجاني وسحل الجثث
في شوارع كركوك لمدة ثلاثة أيام في كركوك عقب مجزرة كركوك في 14 تموز 1959. وكنا نسكن منطقة (عرفة)، وهي تبعد مسافة غير قليلة عن
مركز المدينة. خرجت من البيت بعد
رفع حظر التجول واندفعت وأنا لا أتجاوز العاشرة. في منتصف الطريق، كان ثمة جندي يسأل المارة عن هوياتهم. لكنه اكتفى بسؤالي عن المكان الذي أقصده
فقلت إنني ذاهب إلى البيت. لكنني
انطلقت إلى قلب مدينتي الحبيبة التي كانت آثار القتل والدمار والنهب بادية في كل
شارع من شوارعها.
أكثر ما فجعني منظر دور السينما التي تحطمت
أبوابها ولوحات إعلاناتها المضاءة بالنيون
(العلمين، أطلس وسينما الحمراء).
لعنت المجرمين الذين مدوا أيديهم الدامية إلى كل شيء في مدينتي. رأيت الخراب والتدمير في سينما العلمين
أولا وقلت في نفسي " و ماذا في السينمات لتنهب وتسرق غير أفلام حملت إلينا
البراءة والمتعة والحب والمشاعر الإنسانية النبيلة؟!". ما حل بسينما العلمين كان أكثر من مجرد
تحطيم بوابته الخارجية وتحطيم واجهاته، فقد امتدت يد الآثمين لتقتل صاحبي الدار
وهما الشقيقان صلاح الدين آوجي
ومحمد آوجي وسحل جثيهما في الشوارع.
اليوم يقف تمثال الشهيد صلاح الدين آوجي في
الساحة القريبة من سينما العلمين.
بعد هذه الحادث المؤسف قام أصحاب سينما
العلمين ببناء أحدث دار للسينما في كركوك
(سينما صلاح الدين) حيث عرض على شاشتها خير الأفلام المصرية : القاهرة 30
لأحمد مظهر، سعاد حسني، والأفلام الاستعراضية لسعاد حسني، وشفيقة القبطية لهند
رستم وأفلام هندية وأفلام متميزة أخرى مثل : زد.
السينمات الصيفية
كانت لكل دار سينما شتوية دار صيفية ملحقة
بها. ولكن كانت هناك دور للسينما
صيفية فقط من أقدمها سينما : ديانا التي كانت تلاصق سينما العلمين وسينما
والنجوم (تحولت إلى مرأب للسيارات)
وظلت شاشتها البيضاء زمنا طويلا تذكر عشاق السينما بالأفلام التي عرضت فيها في
الزمن الجميل : النمرود ورصيف نمرة 5 لفريد شوقي وهدى سلطان وغيرها. كما كانت هناك سينما السندباد التي كانت
تعرض أفلاما هندية وعربية ولعل من أغرب الأفلام التي عرض فيها فيلم إيراني اسمه (أبو جاسملر) شهد إقبالا منقطعا رغم
تفاهة موضوعه. لكن الإقبال كان بسبب
دبلجة الفيلم باللهجة العراقية التي كانت تضحك الجمهور، ومنها ما تحول إلى لازمة
للمراهقين في شوارع كركوك مثل (الزم بريك لا توكع بالساكية !).
وكانت السينمات الصيفية ممتعة حقا، حيث
السماء بنجومها البراقة تطل على الجالسين في هذه الدور المفتوحة على الفضاء، الذين
يبحثون عن متعة روحية ونفسية ترفع الظلام عن نفوسهم، وكان أحيانا يتردد بخفوت صوت
بائع البارد وهو يتجول بدلوه المملوء بقناني البيبسى والكوكا كولا بين
الجمهور. وكان يرفع صوته خلال
الاستراحة. أو يضرب بطرف فتاحة
القناني على الدلو ليجلب انتباه الحاضرين.
أول سينما هدمت في كركوك كانت سينما غازي،
وكنت صغير السن عندما قصدتها مع عائلتي
لحضور أول فيلم عراقي ـ تركي مشترك
(آرزو وقنبر) إخراج التركي لطفي عقاد. كما هدمت فيما بعد سينمات الخيام التي كانت تقع في نهاية جسر
الطبقجلي، في الشارع المقابل لقلعة كركوك.
وربما يعود سبب الهدم إلى رداءة الأفلام المعروضة رغم كونها سينما حديثة
البناء قياسا إلى : الحمراء والعلمين وأطلس أو يعود سبب الهدم إلى قرار حكومي.
ومثلما سقط كل شيء نبيل وجميل في وطننا،
سقطت دور السينما من ذروتها إلى الحضيض.
فقد كانت تعكس نفوسنا التواقة إلى الحب والحرية والعدل، قبل أن نكتشف ضعف
كل ما أحببناه من قيم جمالية وإنسانية أمام العنف والغدر والخراب الذي يعم
العالم. وكما قضى صدام على كل ما هو
جميل في حياتنا، قضى على الثقافة السينمائية وأفرغ تلك الدور الجميلة التي تمتعنا
في ظلمتها لسنوات طويلة بدفء وصدق المشاعر النبيلة، من مضمونها الإنساني لتهجرها العوائل، كي تصبح مرتعا
للمراهقين .