عراقيات أصيلات
ألأديبة الكركوكلية الراحلة ليلى مردان
القاصة
والشاعرة ليلى مردان
انها ليست ليلى المريضة في العراق كما وصفها الدكتور زكي مبارك في عهد عهيد،
وفي واحدٍ من أروع كتبه وأمتعها. .
إنما هي ليلى
الهائمة بوطنها المفدى، المنتعشة بشرابه الطهور. . المتخضبة بحناء جماله وجلاله،
المسكونة بشعره وقصصه، المنطلقة نحو الآفاق من اجله، والمستجيبة لندائه المجهول
وغير المجهول.
إنها ليلى
مردان، وهي تعانق الشمس في عليائها، وتجاهر القريب و البعيد بمنازعها لا لشيء الا
لتثبت حضورها شاعرة وقاصةً، فيما وجدت نفسها من مضمار وخاضت بكل ما بوسعها في غمار
من اجل ان يرتقي ما حولها ومن حولها مدارج العز والخلود، ومصاعد المجد والسؤدد.
نعم إنها ليلى
مردان، هذه التي يرتفع صوتها الشعري والقصصي عبر كتابها الأول
" صباح الخير يا مدينتي" دافئا ليثير فينا حب الوطن والتعلق به. . ليوقظ
ضمائرنا وسرائرنا.. ليجدد فينا ذكرياتنا وأمنياتنا. . ليزيدنا شموخا.. وارتقاءاً.
. ليهزنا عملاً ومثلاً. . ليفجر حياتنا ووجودنا نوراً وحبوراً :
" كلما انهمر المطر يطفح بي الحنين أليك،
افتح أبوابي
واحتضن ذلك الانبهار المتدفق
واشعر بأنني
أضم نخلةً،
كانت شامخةً
خلف بيتنا". .
ما في شك ان
المطر يرمز إلى الخصوبة والرخاء كما ان النخلة ترمز إلى السمو والشموخ، والى
الديمومة والمجالدة حيال الطبيعة العاتية، ذلك ان العلاقة العضوية بين المطر
والشجر عميقة عمق الأرض التي تحتهما، أصيلة أصالة السماء التي فوقها.. من هنا
تتحقق الكينونة الذاتية للشاعرة وتتأكد النزعة التعادلية لديها: كما لو كان نسراً
شأنه التحليق حراً والتصفيق عضوا في الفضاء السرمدي:
" تنشد لك أغاني عطر المطر
لأنها رات
عينيك اللتين تبحثان عن غد اخر
فلاتتركيني في
الاماكن البعيدة
ابحث عن ضوء
مشع كنت رأيته،
كان مثلك
حلماً، لكنه مضى،
تاركا
عيوني، تراقب زخات المطر
ومنك كان
عطره، كعطر المطر"
عاشت ليلى في
احداث وطنها عقلا وقلبا. جسدتها شعرا نابضا كثيفاً له بعدهُ الزمني والنفسي، ووظفتها فكرا يلونه الزهو والنضال، وكان
بين هذا الفكر وذاك الشعر غطاء ارهف بالتعادلية تجربة وقيمة.
"
اصعد من عطش الارض نهراً
الى شفة الوطن
/ الطفل
ورويداً
رويداً، بدأت اصابع كفي تنمو
وبينما كنت في
حيرتي، فأجأتني ذراعا وطني
واحتضنتني في
أروع اضمامة ورد نقية ". .
اذا كان الطفل
كما ترى ليلى ويرى الاخرون، امل الحياة الباسم، وضمانة الغد المحققة، فالوطن
والطفل المولود فيه، زهرتا قلبها الفواحتان دائماً، لا يسعى اليهما الذبول
والخمول/ انما التشبيه يقطر صدقاً، ينضح حساً، ينطق بلاغةً، اوليس القلب منبع
الأيمان والوجدان؟!
" حين
أيقظني هدير القذائف،
التي عادت
تمزق أغشية الوطن، الطفل
كتبتُ بلا
كفٍ، وبنصف جسدٍ. .
ووحدها كانت
وردة تتأملني،
نصف باكيةٍ،
ونصف مبتهجة..
لانها وحدها،
دوت الطائرات السوداء، كانت تراني
وانا اغلغل
بقايا ذراعي في التراب؟
باحثةً، عن
قلبي، وطني، الطفل "
كركوك
واذا كان حب
الشاعرة لـ" عراقها " على هذه الشاكلة الباذخة لانه رمزها ورمزنا جميعا،
فلابد ان حبها لمدينتها " كركوك" لم يكن الا اعمق واكبر، اما انسلت الى هذه الدنيا" على
ارضها، وترعرت بين احضانها وقاسمتها سراءها وضراءها وهي تتلقاها بشوقٍ قرباً،
وتستعيد مرآها بُعداً، متباهية به، على الدهر عسراً ويسراً"
" صباح الخير يا مدينتي، أحسست
بحبكِ،
وانا اسمو بكل
من يراك،
فكيف وانا
بعيدة عنك،
اقسم بضوء
الشمس والصباحات التي احلم بها
كحمامة تبحث،
قطرة ترتوي من نهر الخاصة "
وتقف على
اسوار القلعة مناجية اطلال وخرائبها،
كما توقفت انا عليها والقشعريرة تجتاحني، والدمعة تجافيني، وقبيل ان اتداعى
ساقطاً التمست من ينتشلني. . كان لي ما اردتُ..
لئن مسحت ليلى
في وقفتها الاثيرة هذه، ما عفر وجه القلعة الكريم من غبار السنين، ومن عار العتاة
العابثين بمقدرات الآمنين، واذا كان
ولاؤها كـ" كركوك" وانما كان رجاؤها حقاً وصدقاً، ان تدفن في ثراها..
كان لها ما أرادت :
" اقف
عند اسوار القلعة،
امسح تعب
السنين عن وجنتها،
وابني هيكلي
فيها،
لعلي يوماً
ادفن في ثرى مدينتي !
ولو رحت
استنطق النصًّ وانا به متوسل تطبيقا وتوثيقاً، لعجلت بالقول: ان ليلى مردان في مقطوعاتها على نحو عام " رثاء
جروحي. . نور العين. . احرق البحر حبالي.. شظايا الصدر. عطر المطر.. ادمعي.
...الخ.
تبدو كما لو كانت متولهة مغرمة على طريقتها الخاصة، تعبر عن مكبوتاتها ومكابداتها،
في لوحات غير مزخرفة من الحب والعشق، وفي مفردات مشحونة داخليا عن الوانهما الصريحة تارة والخفية أخرى، وهي
مستريلة في أفكارها ومستأنية في إشاراتها ؟ بغية بلوغ هدف هو خلق أجواء الإثارة
والاستجابة معاً وربما التعاطف والتجاذب، فالحب ومعه العشق يسلب الإنسان رجلا كان
ام امرأة، شيئا من أرادته وحريته، ويفقده – اذا طغى– توازنه، حتى اذا احتضن المرفا
– وهو المنشود – بكون كل شيء على ما يرام:
فانا أحسُ
بأنك اقرب من نور العين إلي؟
أراك بحدقات
كل العيون حولي،
حتى فؤادي،
فتحته فرأيت صورتك فيه..
من هنا
فان حب الشاعرة خالص لا زيغ فيه.. منطلق لا هوى فيه.. مريح لاشيء فيه، لتعادل
معطيات العضل والقلب، ولتوازن
المبنى والمعنى على قدر، وترابط البداية بالنهاية بخيطٍ يكاد يكون غير منظور:
" شدني
بحبال وصلك، فقد غرقت بهواك،
وانا مكتوفة
الأيدي، ابحث عن حبل نجاتك،
بعد ان احرق
البحر حبالي
فالقِ إلي
بمرساة نجاةٍ،
فقد احترقتُ..
وثار البحر.. "
وترفع الشاعرة
صوتها بعض الشيء، لتستمد منه الشجاعة، ويهدأ روعها " الذي لن يكون لسواه" منذرةً من تخاطب
بوجوب العود، والهود احمد مادامت هي في انتظار، والانتظار صعب، والا فالكارثة
آتية، والغربة في اجتياح، والموت اختيارا اواضطرارا مرتقب..
"عُد
أيها المجنون..
عدْ وأعد لي
نبض فؤادي
لاحياتي من جديد
فمنذ ان اعلنت
حبي لك، فانا احتضر. .
لان قلبي لن
يكون لسواك. .
عُد لا كشف لك
عن اوراق حبنا"..
الى جانب
الشعر كتبت مردان القصة القصيرة. . ضمت ما حكته بعد الذي نظمته في باكورتها التي
المعنا اليها، والصادرة عام 2002 والمقدمة بتحليل مرضٍ من قبل محمد خضر الحمداني..
هاته القصص – على سبيل التجوّر –
تفتقر الى شروط القصة الفنية لانها لاتعدو ان تكون حكايات قصيرات منتزعات من
حياتنا في بعض صورها المتداخلة. . مألوفة مضامينها. . متوقعة مغازيها قبيل ادراك
خواتمها ومبعثه ما مرت به مجتمعاتنا من مسلمات ومتناقضات، وتأثرت به طبائعنا من
منطلقات وحساسيات ولعلها تذكرني بالقصة القصيرة وقد كنت أقرأها في مجلتي "
اخر ساعة والمصور " وانا على متن السيارة في طريقي الى البيت. .
والذي يشفع
لهذه القصص انها مسرودة بلغة مبسطة، وباسلوب سردي معبر خالٍ من الحوار والمنولوج
الداخلي، لا يهمز في نفس القارئ الإحساس بالتطلع والمشاركة والرغبة في المتابعة
حتى اخر فقرة.
مهما يكن فان
ليلى مردان المولودة عام 1957 بكركوك،
استطاعت في كتابها الاول والاخير، ان ترسي قاعدة مستقبلها الأدبي، وكان بالامكان ان تتبؤأ ما تستحق من
منزلة بين معاصريها ومعاصراتها، وعلى غرار أخوتها الثلاثة الموهوبين، لو لم يفتك بها المرض اللعين ويخترمها
الموت الأليم. .