المراكز الثقافيةالشيعية
الشيخ
جعفر السبحاني
الكوفة، وريثة بابل، كانت اولى المراكز الثقافية الشيعية في التاريخ..
انشأ شيعة العراق عدة مراكز ثقافية في عدة مدن عراقية :
اولا – مدرسة الكوفة وجامعها الكبير : قد سبق أن الإمام علي (ع)
أمير المؤمنين هاجر من المدينة إلى الكوفة واستوطن معه خيار شيعته ومن تربى على يديه من الصحابة والتابعين . ولقد أتى ابن
سعد في طبقاته الكبرى على ذكر جماعة من التابعين الذين سكنوا الكوفة وكان قد أعان على ازدهار مدرسة الكوفة
مغادرة الإمام الصادق ( ع ) المدينة المنورة إلى الكوفة أيام أبي العباس السفاح
حيث بقي فيها مدة سنتين .
وقد اغتنم الإمام
الصادق فرصة ذهبية أوجدتها الظروف السياسية آنذاك ، وهي أن الحكومة العباسية كانت
جديدة العهد بعد سقوط الدولة الأموية ولم يكن للعباسيين يومذاك قدرة على الوقوف في
وجه الإمام لانشغالهم بأمور الدولة ، بالإضافة إلى أنهم كانوا قد رفعوا شعار
العلويين للوصول إلى السلطة ، فلم يكن من مصلحتهم في تلك الفترة الوقوف في وجه
الإمام ( ع ) ، فعمد في زمن وجوده ( ع ) إلى نشر علوم جمة ، وتخرج على يديه الكثير
من الطلبة النابغين . هذا الحسن بن علي بن زياد الوشاء يحكي لنا ازدهار مدرسة
الكوفة في تلك الظروف كما ينقله عنه النجاشي : أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد
الكوفة - تسعمائة شيخ كل يقول : حدثني جعفر بن محمد .
ويضيف النجاشي : كان هذا الشيخ عينا من عيون هذه الطائفة وله كتب ، ثم ذكر أسماءها
.
وكان
من خريجي هذه المدرسة لفيف من الفقهاء الكوفيين ، نظير أبان بن تغلب بن رباح
الكوفي ، ومحمد بن مسلم الطائفي ، وزرارة بن أعين ، إلى غير ذلك ممن تكفلت كتب
الرجال بذكرهم والتعريف بهم .
ولقد ألف فقهاء الشيعة ومحدثوهم في هذه الظروف في الكوفة ( 6600 ) كتاب ، ولقد
امتاز من بينها ( 400 ) كتاب اشتهرت بالأصول الأربعمائة فهذه الكتب هي التي أدرجها أصحاب الجوامع
الحديثية في كتبهم المختلفة . ولم تقتصر الدراسة آنذاك على الحديث والتفسير والفقه
، بل شملت علوما أخرى ساعدت على تخريج جملة واسعة من المؤلفين الكبار الذين صنفوا
كتبا كثيرة في علوم مختلفة ومتنوعة كهشام بن محمد بن السائب الكلبي الذي ألف أكثر
من مائتي كتاب ، وابن شاذان ألف 280 كتابا ، وابن عمير صنف 194 كتابا ، وابن دول
الذي صنف 100 كتاب ، وجابر بن حيان أستاذ الكيمياء والعلوم الطبيعية ، إلى غير ذلك
من المؤلفين العظام في كافة العلوم الإسلامية .
ثانيا- مدرسة بغداد : كانت مدرسة الكوفة تزدهر بمختلف النشاطات العلمية عندما
كانت بغداد عاصمة الخلافة ، ولما دب الضعف في السلطة العباسية وصارت السلطة
بيد البويهيين تنفس علماء الشيعة في
أكثر مناطق العراق ، فأسست مدرسة رابعة للشيعة في العاصمة أنجبت شخصيات مرموقة
تفتخر بها الإنسانية نظير:
1 - الشيخ المفيد ( 336 - 413 ه ) تلك الشخصية الفذة الذي اعترف المؤالف
والمخالف بعلمه ، وذكائه ، وزهده ، وتقواه ، وكان شيخ أساتذة الكلام في عصره الذي
شهد قمة الجدل الفكري والعقائدي بين المدارس الفكرية المختلفة ، وكان - رحمه الله
- عظيم الشأن رفيع المنزلة ، له كرسي للتدريس في مسجد براثا في بغداد ، يقصده
العلماء والعوام للاستزادة من علمه ، وله أكثر من ( 200 ) مصنف في مختلف العلوم .
2
- السيد المرتضى علم الهدى ( 355 - 436 ه ) ، قال عنه الثعالبي في يتيمته ( 1 :
53 ) قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب
والفضل والكرم . وفي تاريخ ابن خلكان : كان إماما في علم الكلام والأدب والشعر .
السيد المرتضى الذي حاز من العلوم ما لم يدانه فيها أحد في زمانه ، أخذ العلم على
يد أستاذ المتكلمين الشيخ المفيد - رحمه الله - وله مصنفات كثيرة لا يسعنا عدها
هنا ، منها : الإنتصار ، تنزيه الأنبياء ، جمل العلم والعمل وغيرها .
3
- السيد الرضي ( 359 - 406 ه ) ، علم من أعلام عصره في العلم والحديث والأدب ،
درس العلم هو وأخوه السيد المرتضى على يد الشيخ المفيد - رحمه الله - له مؤلفات
جمة منها : خصائص الأئمة ، معاني القرآن ، حقائق التأويل .
4
- الشيخ الطوسي ( 385 - 460 ه ) وهو شيخ الطائفة ومن أعلام الأمة ، تربى على يد شيخه
المفيد والسيد المرتضى . وله مؤلفات جمة غنية عن التعريف ، منها كتابا : "
التهذيب "و" الإستبصار " وهما من المصادر المهمة عند الشيعة .
وكانت مدرسة بغداد زاهرة في عهد هذه الأعلام واحد بعد الآخر ، وقام كل منهم بدور
كبير في تطوير العلوم وتقدمها ، وكان يحضر في حلقات دروسهم مئات من المجتهدين
والمحدثين من الشيعة والسنة .
واستمر هذا الحال إلى أن ضعفت سلطة البويهيين ، ودخل طغرل بك الحاكم التركي بغداد
، فأشعل نار الفتنة بين الطائفتين السنة والشيعة ، وأحرق دورا في الكرخ ، ولم يكتف
بذلك حتى كبس دار الشيخ الطوسي وأخذ ما وجد من دفاتره وكتبه ، وأحرق الكرسي الذي
كان الشيخ يجلس عليه .
بغداد كانت ثاني المراكز الثقافية الشيعية في التاريخ
ثالثا- مدرسة النجف الأشرف
: إن هذه الحادثة
المؤلمة التي أدت إلى ضياع الثروة العلمية للشيعة وقتل العديد من الأبرياء ، دفعت
الشيخ الطوسي - رحمه الله - إلى مغادرة بغداد واللجوء إلى النجف الأشرف وتأسيس
مدرسة علمية شيعية في جوار قبر أمير المؤمنين ( ع ) ، وشاء الله تبارك وتعالى أن
تكون هذه المدرسة مدرسة كبرى أنجبت خلال ألف سنة من عمرها عشرات الآلاف من العلماء
والفقهاء والمتكلمين والحكماء . والمعروف
أن الشيخ الطوسي هو المؤسس لتلك الجامعة العلمية المباركة ، وهو حق لا غبار عليه ،
ومع ذلك يظهر من النجاشي وغيره أن الشيخ ورد عليها وكانت غير خالية من النشاط
العلمي . يقول في ترجمة الحسين بن أحمد بن المغيرة : له كتاب عمل السلطان أجازنا
بروايته أبو عبد الله بن الخمري الشيخ صالح في مشهد مولانا أمير المؤمنين سنة (
400 هـ ) . ولقد استغل الشيخ تلك الأرضية العلمية ، وأعانته على ذلك الهجرة
العلمية الواسعة التي شملت أكثر الأقطار الشيعية ، فتقاطرت الوفود إليها ، من كل
فج ، فصارت حوزة علمية ، وكلية جامعة في جوار النبأ العظيم علي أمير المؤمنين - من
عصر تأسيسها ( 448 هـ) - إلى يومنا هذا ، ولقد مضى على عمرها قرابة ( 1000 ) سنة ،
وهي بحق شجرة طيبة أصلها في الأرض وفرعها في السماء آتت أكلها كل حين بإذن ربها .
إن لجامعة النجف الأشرف حقوقا كبرى على الإسلام والمسلمين عبر القرون ، فمن أراد
الوقوف على تاريخها والبيوتات العلمية التي أنجبتها ، فعليه الرجوع إلى كتاب
" ماضي النجف وحاضرها " يقع في ثلاثة أجزاء .
وقد قام الشيخ هادي الأميني بتخريج أسماء طائفة من العلماء الذين تخرجوا من هذه
المدرسة الكبرى .
رابعا - مدرسة الحلة : في الوقت الذي كانت جامعة النجف تزدهر
وتنجب جملة من العلماء الأفذاذ ، تأسست للشيعة في الحلة الفيحاء جامعة كبيرة أخرى
كانت تحفل بكبار العلماء ، وتزدهر بالنشاط الفكري ، عقدت فيها ندوات البحث والجدل
، وأنشئت فيها المدارس والمكاتب ، وظهر في هذا الدور فقهاء كبار كان لهم الأثر
الكبير في تطوير الفقه الشيعي وأصوله ، نأتي بأسماء بعضهم :
1 - المحقق الحلي ، نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد ، من كبار فقهاء
الشيعة ، يصفه تلميذه ابن داود بقوله : الإمام العلامة ، واحد عصره ، كان ألسن أهل
زمانه ، وأقواهم بالحجة ، وأسرعهم استحضاراً توفي عام ( 676 ه ) . له من الكتب :
" شرائع الإسلام " في جزأين ، وهو أثر خالد شرحه العلماء وعلقوا عليه .
واختصره في كتاب أسماه " المختصر النافع " وشرحه أيضا وأسماه " المعتبر
في شرح المختصر " .
2
- العلامة الحلي ، جمال الدين حسن بن يوسف ( 648 - 726 ه ) تخرج على يد خاله
المحقق الحلي في الفقه ، وعلى يد المحقق الطوسي في الفلسفة والرياضيات ، وعرف
بالنبوغ وهو بعد لم يتجاوز سن المراهقة ، وقد بلغ الفقه الشيعي في عصره القمة ، وله
موسوعات فيه أجلها " تذكرة الفقهاء " ولعله لم يؤلف مثله .
3 - فخر
المحققين ، محمد بن الحسن بن يوسف ( 682 - 771 ه ) ولد العلامة الحلي ، تتلمذ على
يد أبيه ، ونشأ تحت رعايته وعنايته ، وألف والده قسما من كتبه بالتماس منه ، وقد
تتلمذ عليه إمام الفقه الشهيد الأول ( 734 - 786 ه ) .
إلى غير ذلك من رجال الفكر كابن طاووس ، وابن ورام ، وابن نما ، وابن أبي الفوارس
الحليين ، الذين حفلت بهم مدرسة الحلة ، ولهم على العلم وأهله أياد بيضاء ، لا
يسعنا ذكر حياتهم .
خامسا - مدارس الشيعة في الشامات : كانت الشيعة تعيش تحت الضغط والإرهاب
السياسي من قبل الأمويين والعباسيين ، فلما دب الضعف في جهاز الخلافة العباسية ،
وظهرت دول شيعية في العراق - خصوصا دولة الحمدانيين في الموصل وحلب - استطاعت
الشيعة أن تجاهر بنشاطها الثقافي ، وفي ظل هذه الحرية أسست مدارس شيعية في جبل
عامل ، وحلب ، تخرج منها العديد من العلماء الأفذاذ والفضلاء . فأما حلب فقد
ازدانت بالعديد من الأسماء اللامعة كأبناء زهرة وغيرهم ، من رجال العلم والأدب .
وأما مدرسة جبل عامل فقد كانت تتراوح بين القوة والضعف ، إلى أن رجع الشهيد الأول
من العراق إلى مسقط رأسه " جزين " ، فأخذت تلك المدرسة في نفسها نشاطا
واسعا ، وقد تخرج من تلك المدرسة منذ تلك العهود إلى يومنا هذا مئات من الفقهاء
والعلماء لا يحصيها إلا الله سبحانه ، ومن الشخصيات البارزة في هذه المدرسة :
المحقق الشيخ علي الكركي مؤلف " جامع المقاصد " ( المتوفى عام 940 ه )
وبعده الشيخ زين الدين المعروف بالشهيد الثاني ( 911 - 966 ه ( .
هذا غيض من
فيض وقليل من كثير ، ممن أنجبتهم هذه التربة الخصبة بالعلم والأدب .
ولنكتف بهذا المقدار من الإشارة إلى الجامعات الشيعية ، فإن الإحصاء يحوجنا إلى
بسط في المقال ، ويطيب لنا الإشارة إلى أسماء المعاهد الأخرى مجردة .
المصادر
( 1 ) النجاشي
، الرجال : 64 / 1 .
( 2 ) الكليني
، الكافي كما في تأسيس الشيعة : 299 .
( 3 ) الطبقات
الكبرى : 6 وقسمهم إلى تسع طبقات .
( 4) النجاشي
، الرجال 1 : 137 / 79 .
(5) وسائل
الشيعة ج 20 الفائدة الرابعة . وقد بينا الفرق بين الكتاب والأصل في كتابنا "
كليات في علم الرجال " .
(6) الطهراني
: الذريعة 4 : 302 / 1316 .
(7) الطهراني
، الذريعة 3 : 210 / 775 .
(8) ابن
الجوزي ، المنتظم 16 : 8 و 16 حوادث عام 447 - 449 ، ط بيروت .
(9) النجاشي ،
الرجال 1 : 190 / 162 .
(10) تأليف
الشيخ جعفر آل محبوبة ، ط النجف .
(11) ابن داود
، الرجال : 62 / 304 ، القسم الأول .
(12) بروكلمان
، تاريخ الشعوب الإسلامية 2 : 108 .
(13) السيد
مير علي ، مختصر تاريخ العرب : 510 ط 1938 م .