د.علي ثويني ـ السويد
كنيسة عراقية تعرضت للتفجير
من قبل الارهابيين
أصابنا الأسى ونحن نتابع الإرهاب المجنون وهو
يعيث فساداً، فبعد أن قتل الأبرياء في العتبات المقدسة، نجده اليوم يفجر حقده
الأعمى في بيوت الله من كنائسنا العراقية، بما يثبت مثل كل مرة أن تخبطه
الأعمى قد أخرجه من سوي العقل ولبيب المنطق، بعد أن تجرد نهائيا منذ أول جريمة
أقترفها من الأخلاق والدين. ونقرأ من رسالته الدموية هذه العداء السافر لكل ماهو
عراقي،وإسلامي وإنساني، فالمسيحيون أخوة في الوطن ونظراء في الخلق، ولم نجد من حلل
قتلهم من الأولين والآخرين، وأن كنائسهم كانت وستبقى عهدة في رقابنا إقتداء
بالعهدة العمرية لنصارى القدس،وأن رسولنا الكريم أستقبل نصارى نجران في المسجد
النبوي الشريف وأرسل أول مهاجريه الى النجاشي النصراني.
اطفال يصلون في كنيسة محروقة
لم يع هؤلاء الظلاميون أن النصرانية لم تأت من
روما قطعا، ولم تطأ أوربا إلا بعد ثلاثة قرون من الويل والثبور كان قد أصاب
النصارى والموحدين من أهل الشرق. ولم تلد اليونان يسوعا حتما وإنما كانت
الناصرة وبيت لحم والقدس. ولم تكن المسيحية إلا وحدانية إسترسلت في ارض
كنعان، من وحي إبراهيم ونهل أور العراقية، وحملت في ثناياها نتاج تراثنا
الروحي التوحيدي، الذي وطأته منذ البشارة، بعد أن حل بها الحواري (توما) بحسب
روايات الكلدان وخاصة (يوسف السمعاني) فأن إنتشار المسيحية في العراق جاء على يده
وكذلك (برتلماوس)،وثلاثة مبشرين(أدّي) وتلميذيه (أجّي) و(ماري) وترجح الروايات كون
الأول أحد تلاميذ السيد المسيح(ع).
نساء يبكين كنائسهن المحروقة
وعلى خلاف مسيحيي الشرق في دول الجوار الذين عانوا من
الحروب الطائفية الأهلية، فأن مسيحيي العراق كانوا متآخين مع أخوتهم في الطيف
العراقي. وماحدث للآشوريين من مذابح على يد بكر صدقي في بواكير العهد الملكي،لم
يكن إلا موقفا قوميا مسيساً، أتخذته السلطة الملكية وأستغلها صدقي نفسه،بعيدا عن
أية دلالات طائفية نائية عن قاموسنا الاجتماعي. ولم نسمع عن أحزاب مسيحية سابقة أو
تدخل للكنيسة في الشأن السياسي أوممارسة لإنقلابات عسكرية بالرغم من أن الكثير
منهم تبوأ مناصب عسكرية سامية.وقد أستثمرت سلطة البعث حربها ضد إيران لمغازلة
الغرب حينما شرعت بمعاضدة بناء الكنائس أو صيانتها، بما أوحى أنهم سلطة متفتحة
تحارب سلطة متحجرة.وحدث أن أستغل أسمهم جزافا في إستجداء بيانات التعاطف الغربية
خلال سنوات الحصار في التسعينات، وأستغل أسم طارق عزيز وبعض أقطاب السلطة المبادة
ذلك، ولم يكن إلا محض مكيدة أريد منها الإيحاء بأن هؤلاء طابور للغرب في
العراق. وربما يكون هذا قد ترك أثرا في نفوس رعاع القوم وجهالهم وسفهائهم، حينما
أنطلت عليهم المسوغات، وجعلهم في التسعينات يصبون جام غضبهم على أخوتنا النصارى
ويضطهدونهم بمبرر (الحملة الإيمانية) الواهية التي كانت من أمهات الدجل البعثي.
وفي أخبار التاريخ نجد أن نصارى العراق لم يشكلوا
شريحة خاصة متقوقعة،بل كانوا أكثر عراقية،ونجدهم قد عانوا من مناخات السياسة.
وظلموا من الساسانيين والبيزنطيين،وتذكر أحداث التاريخ أن سابور(شاهبور) قد قتل
منهم 160 ألف،خلال حكمه الطويل.
وكان النصارى قبل الإسلام يتكلمون اللغة السريانية
(الآرامية) وبعضهم في الحيرة يتكلمون العربية اضافة الى السريانية، اما الفارسية
(البلهلوية) فكانت محصورة فقط بالجهاز الاداري الحاكم. اما طبقاتهم، فهم أما سكان مدن،أو فلاحين أو رعاة في البوادي.وأعتنقت
قبائل عربية المسيحية ومنها أياد وكندة ولخم. ومن أكثر من وردت مناقبه من
العراقيين(حنا الكسكري) الذي بنى أول دير في البرية، وكسكر التي ينتمي إليها هي في
موضع (قلعة سكر) اليوم. ومنهم من أكتسب حظوة كما هو حال القديس (سمعان القديم)
المولود عام 360م الذي تكلم عنه (تاودوريس) أسقف قورش ونسب إليه كرامات كما
لحق فيما بعد بالمتصوفة المسلمين، ونقل أن زوجة الملك (أردشير) قد شفت من مرض عضال
بشفاعته، جعلها تطلب من زوجها الكف عن إضطهاد مسيحيي العراق..
ومن أهم الشخصيات التي تركت أثرها في التاريح العراقي
(مارية التغلبية)، ولقبت بماء السماء،لرقة طباعها ودماثتها، وحتى أن إبنها المنذر
الثالث (513-562م) لقب بإبن ماء السماء، وإبنه سمي بعمرو إبن هند (حكم بين أعوام
562 -574م). وهند هذه تركت أكبر أثر في ديرها الذي مكث ردحا من الزمن بعد الإسلام.
وهي هند بنت عمرو بنت مجر الكندي،كما ذكر ذلك ياقوت في معجمه.ولها قصة مع سعد إبن
ابي وقاص، وكذلك المغيرة بن شعبة الذي خطبها لما تولى الكوفة، فردته ردا جميلا
وماتت على رهبانيتها. ويحكى عن عمرو أنه قتل في ثماله نديميه المقربين عمرو بن
مسعود وخالد المظلل، وأقام على قبريهما غراييب أو طربالين وهي برج عال أو (مسلة)
عظيمة، لم نجد لها اليوم أثراً.
وأنتشرت الأديرة في أواخر القرن الرابع في أطراف
العراق، وقادها عراقيون ربطوا بين الإيمان والعلم (الفكر العرفاني
أوالغنوصي). ويمكن أن يكون (أوكين) العراقي هو من نشر الرهبنة في منطقة
الجزيرة وعموم العراق، ومن تلامذته الراهب (يونان أو يونس) الذي شيد دير مار يونان
في الأنبار، وكذلك دير(يونس) القابع في الموصل. ومن الجدير ذكره أن يونس هذا كان
طبيبا وفيلسوفا، ووصل إلى الزهد والتقشف بمحض أفكاره، التي يمكن أن تكون من تاثير
البيئة نفسها التي أظهرت الزهد والتصوف الإسلامي فيما بعد ولاسيما على مذهب رابعة
العدوية البصرية. كما تولى الراهب(عبدا) بناء دير كبير في (درقان) بعد أن حصل على
رخصة من حاكم (المدائن) (تّموز)،ثم بنى تلميذه (عبد يسوع) دير الصليب ودير
(باكسايا) وآخر على الفرت.
وفي القرن الخامس ظهر القديس (ماروثا) الذي
شافى ابنة (أردشير الثاني) فجعل أباها يسمح لهم بنشر النصرانية بين العجم، وقد بني
بسببها أعداداً كثيرة من الأديرة في العراق، وطفق العراقيون في بناء الأديرة في كل
الأنحاء وأشهر ما وردت أخبارها : دير (أشموني) قرب بغداد ودير (الزّندورد) الواقع
في منطقة المربعة في الرصافة في شرق بغداد ودير (دُرتا) غربي بغداد ودير (سابور)
غربي دجلة، ودير (سمالو) ودير (الثعالب) قرب بغداد عند منطقة الحارثية في الكرخ،
ودير (مديان) على نهر كرخايا (الخير اليوم) في كرخ بغداد، وكذلك (دير مار جرجيس)
قرب بغداد، ودير (كليليشوع) المجاور لمقبرة الشيخ الصوفي معروف الكرخي في
الكرخ و(دير سمالا) الواقعة في منطقة الشماسية (الأعظمية اليوم) ودير (باشهرا )
بين بغداد وسامراء(معناها بيت أو مدينة القمر)، ودير(السهٌوسي)، ودير
(مارفثيون) و(دير سرجيس) قرب سامراء،ودير (العاقول) بين المدائن والنعمانية، ودير
(العجاج) على تخوم منخفض الثرثار، ودير (القياره) عند الموصل ودير(باعربا) بين
الموصل والحديثة على دجلة (معناه بيت أو مدينة الماء)، و(دير ميخائيل)، ودير
(الخنافس) على تلة تشرف على دجلة على تخوم نينوى، ودير (الخوات) في عُكبرا، ودير
(كوم) عند الموصل، ودير (يوسف) و(دير مار إيليا) شرق الموصل، ودير (الأعلى)
بالموصل على جبل مطل على دجلة في قلعة باشطابيه قرب المستشفى الجمهوري اليوم ،
ودير (ملكيساوا) فوق الموصل ونجد (بيت عذري) المعروف بجبل القوش الذي أحتفظ ببعض
الصوامع المنقورة في الجبل وعددها 400، والتي تذكر بالهيئات الأولى للعمائر
المسيحية، ونجد كذلك على تخوم القوش شمال الموصل (دير هرمزد)، وبني
كذلك (دير السيدة) الذي يعتبر من أكبر ديارات الكلدان وبنائه الحالي بني عام
1858. وللكاثوليك السريان يوجد (دير مار بهنام) الواقع جنوب شرقي الموصل.
ومن أهم ديارات السريان وأقدمها (دير مار متي) الواقع على جبل مقلوب شرق الموصل،
والذي يعود الى المئة الميلادية الرابعة. والظاهر أن منطقة الموصل قد أحتفظت بجل
الأمثلة مع وجود أديرة آخرى بالقرب من مدينة بلد، ودير(ماري) عند
سامراء، ودير(مار يوحنا) قرب تكريت، ودير (الجرعة) بالحيرة، ومن أشهر الأديرة
العراقية هي الثلاثة التي شكلت قلب مدينة الكوفة، وأهمها دير هند بنت المنذر بن
ماء السماء. وآخر في النجف بين قصري أبى الخصيب والسدير، وديري (الأسكون)
بالحيرة،وثمة ديرقرب واسط ودير (هزقل) عند البصرة ودير (الدهدار) بنواحي
البصرة، ودير (الأبلق) في الأهواز. ومن المحتمل أن يكون (قصر الأخيضر) احد
تلك الأديرة التي تغير حالها وأضيفت لها الملحقات الإسلامية وطبعت هويتها، كما
أكدته المس بل عام 1911. ومازال لغط يدور حول (قلعة بازيان) قرب السليمانية، وكل
الدلائل البحثية تشير إلى أنها دير عراقي محض وليس قلعة كما يدعي بعض المدعين، بما
يؤكد وسع إنتشار ذلك النوع من العمائر في العراق القديم.
دير مار متي في الموصل
وذكر اليعقوبي في مؤلفيه التاريخ والبلدان بصدد
سامراء: (كان في سر من رأى متقدم الايام صحراء من أرض الطيرهان لاعمارة فيها وكان
بها دير للنصارى بالموضع الذي صارت فيه دار السلطان المعروفة بدار العامة). ويكرر
ذلك كل من الشابشتي حين يذكر (دير السوسي) و(دير مرمار) جنوب سامراء وياقوت نقلا
عن البلاذري وأكد أسمه (دير مر جرجيس) وعين موقعه شمال مدينة بلد بـ 15كلم، وكذلك
(دير عبدون) في المنطقة نفسها.
والدير يعني البيت الذي يتعبد ويقطن ويتعايش فيه
الرهبان. والكلمة واردة من كلمة (دار) السامية، والجمع أديار والديراني صاحب الدير
ويقال دير وأديار وديران ودارة ودارات وديرة (مازالت تستعمل في الجنوب العراقي
والجزيرة والخليج ).
ومابني من العمائر المسيحية في الحواضر والمدن والقرى
فيعتبر كنيسة، وظهرت ملامح أولى الكنائس والاديرة في العراق على سجية العمائر في
نوعيها البابلي في المناطق الرسوبية، والأشوري في مناطق التلال والجبال. وأقدم
الكنائس العراقية كما ورد في بعض المراجع السريانية هي (كنيسة كوخي) العظيمة التي
أقامها (مار ماري) في المدائن (سلمان باك)، التي كانت تعتبر مركز (المرجعية
النسطورية) الملقب بالجثليق (كنيسة بابل). وفي الفرتة العباسية انتقلت المرجعية الى
بغداد بعيد تأسيسها. ومنذ القرن الثاني الميلادي، طفق العراقيون في إشادة كنيسة في
كل قرية ومدينة، من شمال العراق حتى اقصى جنوبه. وكل منها كنيت بأسم قديس أو سميت
بتذكار ديني. وقد اكدت الحفريات التي قامت بها البعثة الألمانية في أطلال (سلمان
باك) وجود آثار كنيسة فيها، وذهبت الى تقدير إنشائها الى المائة السادسة للميلاد.
وأقدم الكنائس الباقية اليوم تدعى (الطاهرة
الفوقانية) وتقع شمال شرقي الموصل، على مقربة من (باش طابية) على ضفاف نهر دجلة،
الذي كان فيضانه وبالا عليها، بالرغم من الترميمات وأخرها الذي جرى عام
1743. وتكتنف الموصل كذلك كنيسة (شمعون الصفا) في محلة مياسة التي يعتبرها البعض
أقدم كنيسة عراقية باقية منذ القرن الثالث الميلادي.
ويمكن إعتبار بغداد من أهم المواقع التي شغلتها العمارة
المسيحية قبل تأسيسها الإسلامي عام 762م، حيث للتسمية الأرامية (بيت غدادو) أي بيت
الغنم أوالمرعى، ربما يؤكد صفتها الأولى الذي يعتبر أحد ما ذهب إليه
الباحثون. وقد وجدت الكنائس في غربها (الكرخ) ثم انتقلت إلى رصافتها تباعا، وأقدمها
التي كانت بجوار بغداد المدورة في محلة (المنطكه) حاليا،وكذلك في (محلة العقبة)
المعروفة اليوم (محلة الشيخ صندل) كما سكنوا في (محلة قطفتا) وهي محلة المشاهدة
الحالية. ومن أكبر كنائس بغداد كانت على تخوم المشهد الكاظمي اليوم شمال بغداد في
محلة (البحية) الحالية،وتطورت هذه الكنيسة حتى أصبحت مجمعا كنسيا أو ديرا كبيراً
جاء وصفها لدى المسعودي، وذكرها ياقوت الحموي واصفا إياه(حسن العمارة، كثير
الرهبان، وله هيكل في نهاية العلو)، وعلى تخومه (موقعه اليوم مدينة الحرية)
كانت (بيعة سونايا)، ثم صار يدعى بـ (الدير العتيقة).
وبعد إنتقال العراقيين النصارى إلى الرصافة متماشين
مع توسع بغداد اللاحق، وما حل في الكرخ من خراب بعد الفتن وحروب الأمين والمأمون،
حيث انتقلوا إلى شمال المدينة (الاعظمية اليوم) بما كان يدعى (الشماسية) منحدرا من
أسم (شماس) وهو القس النصراني،حيث يقول ياقوت فيها :( الشماسية منسوبة الى بعض
شماسي النصارى، وهي مجاورة لدار الروم التي في أعلى مدينة بغداد، وإليها ينسب باب
الشماسية (باب المعظم) وفيها كانت دار معز الدولة البويهي.. وهي أعلى من الرصافة
ومحلة أبي حنيفة). وفي (دار الروم) (حاليا حي صليخ)، كانت قد أنشئت أهم الكنائس
(بيعة درب دينار) التي بقيت قائمة حتى العام 1333م إبان الدولة الإيلخانية. وكانت
تقع هنا أكبر كنائس المشارقة في دار السلام وهي (بيعة السيدة مريم)، وقد ذاع صيتها
في البلدان لما احتوته من رسوم إيقونية كان يمكنها أن تنقل لنا ملامح عن فنون
مدرسة بغداد في الرسم على الحيطان(الفريسكو)، من الحضارات الرافدية. وقد
بقيت محلة في ذلك الجانب تدعى( رأس الكنيسة) تقع قرب الميدان اليوم، حتى
حلول التغييرات المعاصرة في بنية بغداد الحضرية.
واليوم توجد الكثير من الكنائس في أرجاء بغداد تتبوأ
كنيسة الأرمن موقع الصدارة في (الباب الشرقي)، وهي حديثة البناء ومبنية على الطراز
الأرمني التقليدي. ومن أكثر الكنائس قدما وهيبة هي (كنيسةاللاتين) أو (السيدة
العذراء) الواقعة في الشورجة على شارع الخلفاء مقابلة لمسجد الخلفاء المحتضن
لمنارة (سوق الغزل) في حي صبابغ الآل. بنيت هذه الكنيسة بين أعوام (1860-1871). وكان
يلتقي في هذه الكنيسة وما الحق بها الأب العالم أنستاس الكرملي بطلابه وأحبابه من
كل الملل، حتى وافاه الأجل ودفن في باحتها. وقد مرت تلك الكنيسة بويلات كثيرة كان
أكثرها إيلاما إحراقها من قبل الجيش التركي ضمن ما حرق عند إنسحابه من بغداد
بعد خسارته الحرب العالمية الأولى. وأعيد ترميمها عام 1920،واستمر حالها مترنحا
حتى أستملكتها الحكومة العراقية عام 1956، حيث بقيت حتى العام 1966 عندما اغلقت
لمدة عقد من الزمان، حيث وهبتها الحكومة العراقية عام 1976 للأقباط المصريين
الذين بدأ عددهم يتزايد في بغداد حينئذ.
وعلى العموم فأن عمارة الكنائس العراقية وتاريخها
يستاهل من الباحثين الخوض فيه وإثرائه بالبحث والتدوين والرسم، والتحليل
والمقارنة. وأملنا أن لا يكون رد فعل بعض الأخوة أكبر من الفعل الشنيع للإرهابيين،
ويلصقوا الأمر بالإسلام الحنيف، أو يتخلوا عن عراقيتهم الخالدة.