غانم جواد / لندن
كل المهتمين بالشأن العراقي، يرون ان أسباب قيام الفوضى وعدم الاستقرار،
نابعة من هشاشة مشروع الدولة، وانعدام السلطة الوطنية. ويعد الافتقار الى الإجماع
أو التوافق على المشروع الوطني العقلاني، الواعي لمخاطر ما تتعرض له البلاد
والعباد، من محن وكوارث، واحداً من أكبر التحديات حالياً. ومن أهم سمات المشروع
الوطني، تجاوزه للطرح الطائفي والقومي والمناطقي، وهو حجر الأساس في إعادة البناء
للمجتمع والوطن، وليس البحث عن دور قيادي لهذا العائد من المنفى، أو ذاك المقيم في
الداخل.
وبموجب تأكيد مختلف القيادات الإسلامية العراقية، وعدم سعيها لتشكيل دولة دينية،
ولأن الحياة السياسية لم تستكمل بعد، تشكل العلاقة بين الدين والدولة العراقية
المنشودة، إحدى أهم مفردات برامج ونظم التنظيمات السياسية. وبطرح مفهوم «العلمانية
المؤمنة» للتداول في الوضع السياسي والاجتماعي الجديد، لكي يتبلور أكثر، عبر توفير
مناخات حاضنة له، ولإشباعه نقاشاً وتعميقه بين الأطراف المختلفة.
والعلمانية المؤمنة تأتي كحل وسط، بين توجهات الإسلاميين والعلمانيين، بشكل يحفظ
الهوية العربية الاسلامية، ويقيم سلطة عصرية تعتمد الأساليب، والآليات الديمقراطية
أساساً للحكم، وتمنع وصول الدكتاتورية.
العلمانية المؤمنة، هي إنهاء للتوجه الإقصائي أو الإلحادي للعلمانية، بعكس ما
تبناه علمانيو الشرق الاسلامي من تلازم الإلحاد، أو استبعاد دور الدين في الحياة
العامة. فالعلمانية المؤمنة، كما يُعرفها الأمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس
الدين، هي أن «تفسح للايمان الديني مجالاً ومكاناً، ليس في هيكل السلطة، ولا في
هوية النظام، ولا في مجال التشريع، وإنما من حيث الاعتراف بالايمان الديني واحترام
الأديان». وهذا النوع من العلمانية نجد تجسيده في الدولة اللبنانية، ومعظم دول
الغرب الأوروبي حالياً. وقد يشغل الدين في بعض هذه الدول، حيزاً أكبر في الحياة
العامة من التعريف المتقدم.
العلمانية في أحد تعاريفها الجديدة، هي حرية المعتقد على الصعيد الفردي، تسمح
بممارسة الشعائر الدينية جماعياً، لأي كيان اجتماعي، مهما صغر أو كبر، متمتعاً
بقدر واف من الاستقلالية عن سلطة الدولة. وهي لا تعني مواطن بلا دين، أو مجتمع بلا
دين، وإنما تعني دولة وسلطات حاكمة لا تنحاز لدين أو أقلية عرقية، أو طائفة أو
مذهب. ولا تدعو العلمانية المؤمنة الى فصل الناس عن دينهم، لكنها تنشئ سلطة لإدارة
دولة حديثة، تقوم على مبدأ التعددية الثقافية والدينية والسياسية، تجد انعكاساً
لها في هيكل السلطة.
من صفات هذه العلمانية انها تقوم على المواطن الفرد، وليس الحزب، أو الطائفة، أو
القومية، أو العشيرة. ومثل هذا الاعتماد، يزيل مخاوف الجميع. ويفتت التعصب والولاء
الضيق. ويعزز الهوية والوحدة الوطنية. ويحق بذلك للسلطة إنشاء مؤسسات دينية تعطيها
دوراً مهماً، للتعامل مع الدولة والمجتمع الأهلي، ويجعل دور المؤسسات مهماً في
المشاركة، في تحمل المسؤولية عن كيان أي جالية في المجتمع. وهذا ما يُحجم الى حد
كبير، مقولة إقصاء الدين عن الدولة. ويمنح الحرية الواسعة في التحرك، لأي مجموعة
دينية، تتعايش مع الآخرين مهما كانوا، بوئام وسلم اجتماعي على أساس أن الوطن يتسع
للجميع.
والعلمانية المؤمنة تعني حياد الإدارة والسياسة الحكومية، بما يتعلق بعقائد الناس،
أفراداً وجماعات. وتعني بشكل آخر استقلالية الوظائف العامة في السلطة.
والدولة لا تجعل من الدين أمراً ثانوياً، بل تطلق حرية تحركه في أوساط المجتمع،
كونه رابطة بين الانسان والكون وخالقه، وكذلك بين البشر جميعاً، وتعده كمنظومة
أخلاقية مترابطة. وللدين دور فاعل يحمي الإنسان من الانزلاق نحو الانحراف والجريمة
ويصون الفرد. فالدين علاقة سمو وتصعيد روحي، تحتاجها المجتمعات. وينظر إليه كمعين
لا ينضب، لإنتاج القيم والمعنويات الضرورية للحياة. وتسمح بتكوين أحزاب دينية
سياسية. وهذا ما يفسر دعم الدولة للمشاريع، الهادفة لتطوير الإنسان وتنمية قدراته
وفعاليته.
فالعلمانية الجديدة، هي تشريعات تُستمد من حركة الواقع الاجتماعي، أياً كان هذا
الواقع، تستهدف قضاء حاجات الأفراد، وتحقق أكبر قدر ممكن من المصالح الحياتية
المشروعة، وهي تشريعات تخصصية تخص العموم، وقد تكون من نفس تشريعات المعتقد الديني
السائد في المجتمع، فهي لا تخالف التقاليد والأعراف، ويراد منها تحقيق أكبر قدر
ممكن من العدالة.
أما تعريف العلمانية بأنها فصل للدين عن الدولة، فهو قديم. كما روج له علمانيو
الشرق الإسلامي، بدعوى إقصاء الدين عن واقع الحياة. فعادوا الناس لدرجة تحولت لفظة
العلمانية إلى شتيمة تثير الاشمئزاز والاستفزاز، وترسخت مخزونة في ذاكرة مواطنينا
كنظام للدولة المعادية للدين، رغم انه لم يتحقق الفصل الكلي بين الدين والسياسة
حتى في الدول التي تسود فيها العلمانية القديمة. فالكنيسة تكتظ بالمصلين وتحتفي
بهم، وهي تحكم وتنظم شؤون اتباعها، ولها سلطة في الاعلام والرأي العام، وتستشار في
صياغة القوانين والتشريعات وحتى السياسات العامة.
السلطة العلمانية بتعريفها الاقصائي، ظلت جامدة، وأسيرة الماضي وتجلياته، كما
نجدها في فرنسا والدول المقتدية بعلمانيتها كتركيا مثلاً. تهتز من حجاب فتاة في
المدرسة أو موظفة حكومية. فرنسا الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي تتمرس خلف
الواجهة العلمانية القديمة، لتحارب النزعة الفطرية للتدين عند الإنسان. فتحولت
العلمانية الفرنسية إلى دين جديد، له اتباعه ومنظروه، وانتهجت طريق الأيديولوجيا.
يتسم أعضاؤها بالتطرف أو اللا تسامح والكره والاستهزاء لكل ما هو ديني، ومعاداته
بشكل سافر.
بدأنا نرصد تحولاً عند اسلاميين نحو مبادئ سائدة في النظم العلمانية، على أساس
إعادة قراءة جديدة للنصوص الدينية والتوسع في فهمها. اقتنع الإسلاميون بأن تلك
المبادئ هي إنسانية وحيادية وعالمية، وقابلة للتأقلم مع أي مجتمع كالتعددية
بأنواعها، والبرلمانية، والدستورية، واعتبار الديمقراطية ووسائلها آلية يدار بها
الحكم والسلطة، والقضاء المستقل، واللجوء إلى الاعتراف بالآخر، والايمان بالحوار
كوسيلة لفض الإشكاليات مع الآخر المختلف، وتحريم العنف، والمجتمع المدني، ودولة
القانون والمؤسسات... الخ.
والعلمانية المؤمنة أخيراً، هي إطار تنظيمي يدير السلطة السياسية، ويحفظ شرعية
الدولة، باعتبارها لكل المواطنين، وتفعل حقوق الانسان وحرياته، كحرية الاعتقاد،
ومنها الإيمان الديني، كما تحفظ حقوق الاقليات من هيمنة الأكثرية، وتبعد التسلط
الطائفي أو القومي أو المناطقي أو العشائري. إنها وسيلة لتأكيد التعايش المشترك
بين كل مكونات المجتمع العراقي، بدون طغيان طرف على آخر، أساسها المواطنة.